يبدو أن البرجوازية الدمشقية (أو ما تبقى منها) حائرة في تطلعاتها السياسية لمستقبل سوريا، فتصرفات هؤلاء وسلوكهم توحي بأنهم يسعون إلى سلطة ما، إنْ كان ذلك بوجود الأسد، خاصة أنهم كانوا سنداً له وداعماً في تطور حكم العائلة المالكة وتلسطها (الأسد الأب ومن بعده الابن)، أو من عدمه.
أما في مجالسهم المغلقة فيبدو أن مقولة (رأس المال جبان) هي السائدة رغم ما يملكه بعضهم من نفوذ، إن كان ذلك عبر ميليشيات فاعلة على الأرض (كما هو الحال مع البرجوازية الجديدة) أو عبر الثقل الاقتصادي (كما هو الأمر مع البرجوازية الأصيلة).
ولكن انصهار البرجوازية الدمشقية الداخلية في خندق واحد مع نظام الأسد ودعمها له والمساهمة في بنائه اقتصادياً وسياسياً وحتى اجتماعياً، وربط مصيرها بمصيره، جعل من مسألة شكل سوريا القادمة وشكل الحكم فيها بالنسبة لهم، مرتبطاً بشكل عضوي بما يراه النظام الحالي حسب البعض، وربما مرتبط أيضاً بالأسد كشخص وفقاً للبعض الآخر.
الدوائر الداخلية لما تبقّى من البرجوازية الدمشقية في الداخل السوري، بشقيها الأصيل (أي التاريخي) أو الجديد (الذي نشأ في عهد الأسد)، ما زالت تتصرف في العلن وكأن شيء لم يحدث في سوريا محافظةً على ما تبقى من المظهر، فالمطاعم والبارات والملاهي الليلية تمتلئ بهم، فيما تخرج تقارير إعلامية متفرقة خاصة في الصحف العالمية (المشهورة) تتحدث عن الحياة الدمشقية الصاخبة المستمرة بشكلها طبيعي رغم ما يحدث على بعد كيلومترات قليلة في حيّي القابون وجوبر الدمشقيين، أو مدنتي داريا ودوما في الريف الدمشقي.
في حين تصرفات هذه الطبقة في الخفاء تبدو مختلفة تماماً، فالحذر يشوبها، وجزء كبير يرى أن الهرب خطة بديلة في حال تبدّلت الأمور في المستقبل المنظور، خاصةً أن بعضهم كان له دور كأدوات في آلة القتل المستمرة في سوريا، إن كان ذلك من خلال الدعم المالي أو اللوجستي أو المعنوي، وبعضهم الآخر عمالته للنظام الحالي الحاكم معروفة وموثقة.
الموقف الضبابي لهذه الطبقة التي طالما تحالفت (القسم الأكبر منها وليس جميعها) مع السلطة الحاكمة، سواء كانت عثمانية، فرنسية، ولاحقاً وطنية، ومؤخراً أسدية، يأتي من تاريخ طويل من السعي إلى السلطة بكل أشكالها (التنفيذية، والتشريعية، وحتى القضائية).
في الخمسين سنة الأخيرة، لم تمتلك هذه الطبقة من السلطة إلا المظهر، فرغم وجود أفرادها كنواب في مجالس الشعب المتتالية، إلا أنهم (أي هؤلاء الأفراد) كانوا شكليين، وتواجدهم في هذه المجالس رمزي أكثر منه حقيقي، حتى البعثيون منهم لم يملكوا أي سلطة تذكر.
وتواجدهم في هذه المجالس كان في أساسه لتمرير المصالح في ظل غياب القوانين الناظمة للعمل التجاري والصناعي في سوريا، والذي يحتاج إلى رجل أعمال (تشبيحي كما يقال بالدارج) لتنفيذ المصالح وتمرير التجاوزات، بالإضافة إلى خرق القوانين التي وضعها النظام بحد ذاته، من خلال بعض عناصر الأمن والعسكري الذين تحولوا مع الوقت (الخمسين سنة الأخيرة) إلى جزء من هذه الطبقة البرجوازية.
فالتزاوج بين المال والسلطة الذي شهدته سوريا في عهد الأسد، تمثل في تعديل القوانين والتشريعات لخدمة المصالح فقط.
في حين أن هذا التزاوج يصبح باطلاً في ظل انتخابات تشريعية نزيهة، وفي ظل عمل حزبي حقيقي على الأرض، وهذا ما يدركه ما تبقى من هذه الطبقة في الداخل السوري، حيث يرى هؤلاء أن أي شكل من أشكال الحكم النزيه أو العمل الديمقراطي المدني المبني على المؤسسات الفاعلة، يضع برجوازيتهم الحالية موضع الضعف، والأدلة كثيرة في التاريخ القريب من خلال دعمهم في حقبة الأسد وقبلها، ففي حقبة الأسد تحالف معظمهم مع السلطة القمعية الشمولية في مجالس محلية وبرلمانات لتمرير قوانين، وحتى قبل فترة الأسد تحالفوا مع السلطات المتتالية، والتي تملك القوة على حساب الوطن، لذلك يتجهون إلى دعم أي مشروع سياسي من شأنه الإبقاء على الفساد لخدمة مصالحهم على المدى القريب أولاً وعلى المدى البعيد تالياً.
بين البرجوازية الانتهازية التي تشكلت وظهرت في السنوات الـ10 أو 20 الماضية، كما شخصيات مثل "مجد سليمان" و"رامي مخلوف" و"ذو الهمة شاليش" و"محمد حمشو".. وآخرين من ضباط وأمنيين، والذي جمعوا أموالهم بطرق غير شرعية وعبر تطويع القوانين والتشريعات لخدمة أجنداتهم بمساعدة ومباركة من السلطة الحاكمة، وربما شركات الخليوي الحالية، وشركات الإعلام كالتلفزيون (الدنيا) وجريدة (بلدنا) وغيرها، موقفهم تخريبي واضح.
ورغم أن اختراق دوائرهم الداخلية صعب في الوقت الحالي، إلا أن التسريبات المتوفرة والتي جاءت على لسان البعض، والتصريحات القليلة والتي أطلقها البعض الآخر إعلامياً، تفيد بأن هؤلاء يسعون إلى تشكيل تحالف اقتصادي يسعى إلى شكل حكم يضمن وجودهم في المستقبل، ويبدو أن اللامركزية السياسية، والتي تملك سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية، شكل محبب لهؤلاء، لأنها تعطيهم الأريحية في تغيير وإصدار القوانين الوضعية الاقتصادية أولاً، والسياسية ثانياً، والاجتماعية ثالثاً لزيادة ثرواتهم.
وبين البرجوازية الدمشقية الأصيلة والتي سميت سابقاً بالبرجوازية الوطنية، أمثال عائلات "الخطيب" و"الحايك" و"معتوق" و"نويلاتي" وغيرها، فدوائرها الداخلية منقسمة على موقف وطني (إن كان في بعض الأحيان لا يخدم مصالحها) وربما يكون نظاماً لا مركزيًّا إداريًّا هو مطلبها كما تأتي التسريبات، وعلى موقف ذي أجندة اقتصادية (متحول) يضع مصالحهم في خندق واحد مع النظام الحاكم الحالي أو أي نظام حاكم طالما قادم يخدم أجنداتهم.
وبعيداً عن التصنيفات الداخلية، فإن حكومة دمشق جعلت عبر خمسة عقود الشكل الوطني البحت (الموجود في الدراسات الأفلاطونية) بعيد المنال، عبر ممارسات كان أقلها وضع محافظ لحلب من السويداء، وآخر للرقة من دمشق، وثالث لدمشق من حماة، بدلاً من انتخاب هؤلاء من أبناء المدينة ذاتها، منصب المحافظ لم يكن وحده الذي شهد هذه التركيبة العجيبة بل مختلف المناصب المؤثرة كانت على ذات الشاكلة، بداية من الجيش ووصولاً للأمن وليس انتهاءً بالمجالس المحلية والاقتصادية الكبيرة.
بين لا مركزية إدارية أو سياسية، وبين مركزية حاكمة، يبدو أن سوريا قادمة على مطحنة سياسية خاصة في ظل انحسار آلة القتل في الأيام القليلة الماضية، وإن استمرت هذه الآلة بالانحسار كما يتوقع البعض، فإن مرحلة كسر العظام قادمة، بين رجال المال، ورجال السياسية، فالدليل الذي سقناه في هذا المقال عن البرجوازية الدمشقية (المتبقية في الداخل) وطرق تفكيرها، وبين البرجوازية التي هاجرت وتريد أن تعود، وبين طبقة سياسية تسعى لتغير المعادلة، ستكون سوريا ساحة جديدة للصراع قد تنتهي بشكل لا يُرضي أي طرف، وربما يكون شكلاً محاصصاتيًّا معلناً كما هو الأمر في لبنان أو فيدرالية لا مركزية تقضي على ما تبقى من قوة لسوريا كدولة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.