لقد كانت المدرسة مكانًا غبيًا!

لا أحبّ التّورّط في مزيد من الإساءة لجيل أنجبني وربّاني، لكنّ كثيراً منهم في عالم العرب عندنا هم مع الأسف، عنوان فشل كبير وقوم لا علاقة لهم بالمستقبل سوى أنّ الزّمن يتقدّم بهم نحوه، أمّا هم فلا أدري فيمَ كانوا يفكّرون ولا إلى ماذا يسعون..

عربي بوست
تم النشر: 2016/04/05 الساعة 03:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/04/05 الساعة 03:35 بتوقيت غرينتش

درّسني بعض الطيبين وأحسن منهم إليّ الكثير، ومنهم من أعزو إلى حسن صنيعه كثيراً من توفيقي. لكن الأكثر أخطأوا بحقّ الأجيال. ولذلك أرجوكم تقبّلوا منّي قسوة هذه الكلمات، وهي اليوم عليّ أقسى..

في هذه الخاطرة أذكر في صور مختلطة غير مرتبة ذكريات من المدرسة الابتدائية والكلّية والمعهد.. فالماضي لحظة مرّت لا يعني ترتيبها شيئاً سوى جعلها رتيبة، بينما هي متحرّكة كمارج في دواخلنا كلّ لحظة.

في العالم توجد مدارس لتعليم كل شيء عن كل شيء، لكن المدرسة عندنا لم تعلمنا الحب ولا الإيمان ولا الصلاة في أبعادها التأملية العميقة، ولا التعامل مع الناس ولا ممارسة العمل ولا التعامل مع المال.. ولا أي أمر نافع حقيقة في الحياة..

لا شيء سوى بلادة أساتذة نختصم معهم حول الأعداد والملاحظات وعدم فهم الغرض من الدروس..
ولا شيء سوى تملق بعض الطلبة للأساتذة لتحصيل علامة أعلى أو توصية لتدريب لا يشبه التدريب في شيء أو تدبير نصف عمل بالواسطة في أفضل الحالات..

كان الكل خائفاً من الكل..
أذكر أن الأساتذة كانوا يخشون وقاحة بعضنا أو علاقات والديه أو حتى مجرد إحراجه لهم!
لقد كانت المدرسة مكاناً غبيًّا..

أكره إلى هذه اللحظة مديراً ضربني على وجهي لأني كنت أجري في ساحة المدرسة.. وكان أبي صديقاً له، فكلما سببته أمام والدي، وأنا طفل لا أعرف الألف من كوز الذرة كما يقال، غضب أبي فأنكرته كما كرهت المدير دهراً..

كرهت جل معلمي وأساتذتي وسخرت من أغلبهم، ولم تجمعني علاقة طيبة سوى بالقليل القليل منهم. ذات لحظة جنونية تمسّك أستاذ بطردي لأنّي بدوت له مزعجاً بسبب صمتي الشّديد في الحصّة. رفضت الخروج فهدّد وعلا صوته. فخرجت، لكني التفتّ إليه لأذكّره بأنّنا نلتقي يوميًّا على متن نفس الحافلة.. فاشترى سيارة بعد أسبوع..

في قرارة نفسي لم أكن أحترمهم، لأني كنت أرى أغلبهم متشابهين يجمعون المال ولا يفيدونني بشيء سوى مزيد تكرار العادات البالية البليدة كل صباح..
إحداهن أشبعتني ضرباً بمسطرتين رقيقتين ذات صباح شتوي، فقط لأني نسيت ميدعتي عند خروجي مسرعاً من البيت، فارتديت معطفي الصغير فوق صداري الصوفي على عجل، بسبب البرد أصلاً ربما. فكان أن زادت ألمي ألماً وأمام الجميع.. بكل قسوة. أقسم أني أتمنى كل لحظة رد تلك الضربات لها وهي عجوز اليوم..

إحداهن ربما ماتت الآن، كانت عجوزاً لا يبدو لي أنها كانت تصلح لتدريس أطفال المدرسة؛ (رحمها الله حيّة أو ميّتة).. كانت تتوعدني يوميًّا بكسر شوكتي! وكنت أستغرب عباراتها القاسية تلك! وأنا في التاسعة من عمري!
تصور! لي شوكة بهذا الخطر حتى تكسرها المعلمة!

مشاهد كثيرة يعزيني فيها ردة فعلي الساخرة والمنتقمة أحياناً كثيرة.. على صغر سنّي، حتّى أنّي كنت أخترع الأغاني السّاخرة من المعلّمين والمعلّمات وأحفّظها لباقي التّلاميذ.

كنت أحصل أحسن الأعداد، بل كنت غالباً الأوّل على القسم، لأن أمي كانت تجبرني على الحفظ، أما أنا فلم أكن أهتم وما زلت لا أهتم في الحقيقة.. حتى أني لما اختلفت مع أمي حول تدخلها في دراستي عندما بلغت الجامعة، أقسمَت أن تتركني وشأني، رسبت مرتين.. لأنّي لم أجد من أقاوم ولم أعرف ما أفعل وحيداً.

وها أنا ذا، ما زلت أكره المدرسة التي كانت كل عالمي، وبكيت بمرارة لحظة إطلاعي على النتيجة النهائية سنة التّخرّج وقد نجحت.. لأني لم أعلم أين أذهب بعدها.. وأكتشف صعوبة الحياة خارجها، وألعن كل لحظة مرت عليّ دون أن أفهم غرض وجودي وأحدد أهدافاً دقيقة في الحياة سوى اجتياز الامتحانات بنجاح، وأقرر كيف أريد أن أعيش.. وأندم على كل يوم صدقت فيه أني سأتخرج متعلماً قادراً على النفع وامتهان عمل يحقق ذاتي ويفيد مجتمعي.. فإذا أنا مجرد ملاحق لسراب المال باحث عن الاستقرار المادي والأمان في واقع يشبه كل شيء إلا المدرسة، وحيث كل الناس أسوأ حتى من تلك المعلمة الشمطاء!

قامت مرة إدارة المدرسة باختيار بعض التلاميذ للتمثيل في مسرحية للمشاركة في إحدى المسابقات على مستوى الجمهورية..
فترشحت لأحد الأدوار المهمة. وتمسكت بحقي في الدّور. لكن المعلم المشرف رفضني، وتعلّل بصلابتي وعدم قدرتي على تقمص الأدوار.. قال لأبي: "ابنك كالعصا". وكنت باستغراب أتخيّل نفسي كالعصا فلا تتّفق الصّورة في مخيّلتي فأنا حالم راقص متمايل أبداً!

لست ممثلاً حالياً، لكني أعمل أمام الكاميرا بما تتطلبه هذه المهنة من قدرة على التقمص إلى حد كبير.. كما أني كنتُ عدتُ في وقت سابق إلى هواية التمثيل بعد ما لا يقل عن خمسة عشر عاماً عندما دخلت الكلية.. كأنّ عقدة ما ظلّت تلاحقني.. حتّى أنجزت مسرحيّتي الخاصّة..

ما أذكر بشكل كبير أنّ المعلّم وأمّي وأبي قالوا كلّهم إنّي لا أصلح للفنون ولا للإبداع.. أنا محض حاسب بارع في الرياضيات نابغة في الحفظ. يكفي أن أكون الأوّل على القسم ولا حاجة لأكثر من ذلك. وا أسفي كم كان ذلك مقرفاً.
ساءني جدًّا وصفهم ذاك، وجعلني أتساءل هل أنا فعلاً كذلك؟ ثمّ أجبرت نفسي على الاقتناع والرّضا بكلّ ما فرضوه..

لقد كنت أتساءل وألحّ لماذا رُفضت؟ وكانوا يلحّون في إقناعي أنّي صلب كالعصا..
فهل كان هناك عمل على أن تصلح تلك الصّلابة؟ أبداً، بل فقط إقصاء من المسرحيّة لمجرّد الإقصاء..

بينما أكتب تعاود العقدة الظّهور.. ألم تكن المدرسة مكاناً غبيًّا فعلاً؟
طبعا لم يتخصّص أيّ من أبطال المسرحيّة في المسرح ولا في الإعلام لاحقاً، بل هم تقنيون اليوم لا علاقة لهم بهذه المجالات أبداً.. ولي أن أتساءل، هل هم ناجحون في التّمثيل على خشبة الحياة الحقيقيّة؟ وهل وجدوا معلّماً يرشّحهم لأدوار البطولة حالياً؟

لقد كانت المدرسة مكانا غبيّا..
دائماً ما بدا لي المعلّمون أطفالاً بشوارب وجسما وطول زائد علينا. لكنّهم لم يكونوا مثالاً، وكنت دائم الغضب منهم ولا أرضاهم معلّمين إلّا قليلاً..
ماذا لو أنّي صدّقتهم ولا أصلح إلّا للأمور الجدِّيَّة؟ وكأنّ التّمثيل عمليّة غير جادّة..
لعلّي بدأت أفهم رؤية كلّ ذلك الجيل الذي ربّانا للأمور.. الفنون ليست سوى لهو غير جادّ.. الجادّون يعملون في الإدارات، يجلسون أمام الكمبيوترات وراء المكاتب ساعات طويلة في اليوم.. لا يصلحون للإبداع..

لا أحبّ التّورّط في مزيد من الإساءة لجيل أنجبني وربّاني، لكنّ كثيراً منهم في عالم العرب عندنا هم مع الأسف، عنوان فشل كبير وقوم لا علاقة لهم بالمستقبل سوى أنّ الزّمن يتقدّم بهم نحوه، أمّا هم فلا أدري فيمَ كانوا يفكّرون ولا إلى ماذا يسعون..
رحمنا الله وإيّاكم، فلسنا في الحقيقة أفضل منكم كثيراً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد