اللعب بالقلوب

أصرّت عليه، فأردفت: لا، أنا صادقة، لقد كنت أراقبك طوال العام، وأنت تكدّ في الحديقة، أحببت عزيمتك وتفانيك، وأنا لا أريد الارتباط بشخص يشبه رفقاء الدراسة، فهم أغنياء، لكن ينقصهم النضج والشهامة، وأنت جمعت بينهما وإن تحقق المراد سنعيش سعداء، ولن يبخل أبي عن مساعدتنا، بل سيعطيك عملاً في شركته.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/04 الساعة 03:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/04 الساعة 03:03 بتوقيت غرينتش

تحكي فتاة تائبة قصتها مع أصدقاء السوء، فتقول: كنت أدرس بإحدى أرقى الجامعات الخاصة، وكنت أنا ومَن معي من الأصدقاء نمضي وقت الاستراحة في الجلوس على مقهى بالحرم الجامعي نتداول النكت ونضحك على الناس، ورغم أني كنت أشعر بالسوء أحياناً عندما يسخر أحدهم من طالب أو أستاذ، لم أستطِع ترك الجماعة مخافة أن يقال عني معقدة أو ما شابه ذلك.

مرت الأيام، وإذا بنا ونحن جالسون في مكاننا المعتاد نرتشف العصير في خميس مشمس، لاح لنا شاب يعمل بستانياً في الحديقة الخلفية، لم ننتبه له يوما؛ لأننا ألفنا التموضع في الواجهة الأمامية للمقهى حيث نستطيع رؤية العابرين، وكما هي العادة، بدأت بعض صديقاتي الاستهزاء به وبخلقته الذميمة، وبادرت إحداهن إلى اقتراح تحدي عجيب، "من تستطيع أن تجعل ذلك الشاب الحقير يقع في حبها في أقل من أسبوعين ننصبها ملكة جمال لنا"، انتفضت صديقة لي وقالت بصوت يملؤه الإصرار: أنا للمهمة، ثم انفجرت ضاحكة.

عند بداية الأسبوع، شرعت الصديقة في تنفيذ خطتها، كانت تمر قرب الشاب بعد نهاية كل حصة واضعة أفضل العطور محاولة إثارة انتباهه، وهو لا يدرك حتى وجودها، فالمسكين كان منهمكاً في عمله.

بعد مرور يومين، وحين لاحظت الصديقة أن طريقتها لم تفلح، استدرجناها لمباشرته بالحديث عوضاً عن الإغواء البطيء، وفي اليوم الموالي، بينما نحن جالسون نضحك ونلعب، قامت وقالت لنا: راقبوني.

اتجهت صوب الشاب وكلمته، قالت له إنها معجبة به وتتمنى أن تحظى برجل مثله يكون رفيقاً للدرب، أجابها وهو في دهشة: أنا يا سيدتي شاب فقير، ولا أملك إلا قوت يومي، ولا أظن أنك جادة بقولك، فأنا لست من مستواك، ولا أكاد أطاله.

أصرّت عليه، فأردفت: لا، أنا صادقة، لقد كنت أراقبك طوال العام، وأنت تكدّ في الحديقة، أحببت عزيمتك وتفانيك، وأنا لا أريد الارتباط بشخص يشبه رفقاء الدراسة، فهم أغنياء، لكن ينقصهم النضج والشهامة، وأنت جمعت بينهما وإن تحقق المراد سنعيش سعداء، ولن يبخل أبي عن مساعدتنا، بل سيعطيك عملاً في شركته.

بدأ الشاب يستسيغ كلامها ويصدق بعضه، فأنى له أن يجد فتاة بمثل جمالها ومستواها الاجتماعي ترضى بواحد مثله، وتذكر أمّه التي لطالما أوصته بالزواج؛ لكي لا يشعر بالوحدة وهو المقطوع من الشجرة، لا أهل له ولا أحباب، فنوى أن يقدم على خطبتها.

صارحها بذلك، فدلّته على عنوان منزلها وطلبت منه أن يحلق لحيته ويترك الشارب؛ لأن أباها يستحسن ذاك المظهر، وطمأنته بموافقة الأب عندما يرى فيه دماثة الأخلاق وشدة الاجتهاد.

رجعت لنا صديقتنا مطلع الأسبوع الثاني تخبرنا بما حصل، فانفجرنا ضاحكين ساخرين من سذاجة الشاب وحسن نيته، وقلنا لها إن ما فعلت كيد كبير، حتى الشيطان ليست لديه حيلة يضاهي بها صنيعها، طلبت منها أن تنهي الخدعة وتترك الشاب لحال سبيله، لكن تشجيع الأخريات لها جعلها تمضي في طبخ وصفتها.

جاء اليوم الموعود، ارتدى الشاب قميصاً كان يخص أباه المتوفى، وانتعل حذاء يخبئه للأعياد، وضع عطراً استلفه من أحد أصدقائه، وقبّل جبهة أمّه المسنة قبل الخروج، عند وصوله لبيت الصديقة الفخم، شعر بتوتر كبير، وظن أن ما يفعله حمق وطيش، لكنه تذكر كلمات الفتاة التي بدأ فعلا بحبها؛ لأنها رأت فيه أبعد من جمال الوجه أو الجسد، فطرق الباب وانتظر.

فتحت له الخادمة، وسألها إن كان صاحب البيت موجوداً، فاستأذنت لتستدعيه، بعد برهة رأى الأب قادماً، تظهر من حلته أمارات البذخ، يحمل غليوناً في إحدى يديه.

خطا الشاب مبتسماً ومدّ يده ليسلم على الأب، فلم يقابله الرجل بالمثل، بل نظر إليه مترفعاً وقال له: مَن أنت؟ وماذا تريد؟

أجابه الشاب متلعثماً وقد أصابته حيرة: أنا أنا، اسمي نبيل، وجئت لأتحدث مع حضرتك في موضوع إن سمحت.

لم يجِبه الأب، بل حثّه على مواصلة الكلام بحركة من يدِه.

"أرجو أن تعذر جرأتي، لقد قدمت اليوم وكلي أمل في خطبة ابنتكم".
صاح به الأب "ماذا؟"، وصفعه على خدّه ثم طرده بعد أن قصفه بوابل من الشتائم، وكانت الفتاة في أعلى الدرج حابسة للضحكة تشاهد ما يقع وتصوره بكاميرا الهاتف.

التحقت بنا الصديقة في اليوم الموالي، وشرعت تقص لنا بفخر واعتزاز ما حدث وختمت باطلاعنا على الفيديو، فكانت دهشتنا كبيرة، واعتلانا بعض الحزن لما ألم بالشاب، ثم أخبرتنا أنها وضعت الفيديو على صفحة الجامعة في الفيسبوك؛ ليكون عِبرة لمن يطمع في مناسبة عائلة غنية كعائلتها، هنا ارتعدت فرائصي، ولم أقدر على تحمّل حقارة الصديقة، فهي المخطئة التي نسبت الذنب لغير صاحبه.

لم أعُد أجالِس تلك الجماعة، واستعنت بكتب وأقراص دينية اشتريتها لأسبّح خارج دوامة السفالة تلك، لاحظت غياب الشاب لأشهر عدة، فذهبت أسأل عنه صاحب المقهى، فقال لي إنه أصيب بانهيار عصبي منذ أسابيع بسبب حادث طرأ معه، أقدم بعده على الانتحار.

اقشعر بدني، وأحسست بالدمع ساخناً يسيل من عيني، أسفت لما حصل، وكرهت ما فعلت تلك الفتاة، أذلت شاباً بريئاً وجرحت كرامته، وهي أغلى ما كان لديه، فكانت سبباً في هلاكه.

أنهت التائبة قصتها حول تجربتها مع اللعب بالقلوب وأصدقاء السوء، والعبرة واضحة، لفهمها لا حاجة لترجمان.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد