تنتشر بين الفَينَةِ والأخرى دعوات خلع الحجاب، أو القول بأنه عادة وليس عبادة، ويجري على أثرها ليُّ أعناق النصوص الشرعية في القرآن والسنّة والدالة دلالة لا تقبل شكاً ولا منازعة على وجوب الحجاب والستر وضرب الخِمَار وإدِناء الجِلباب، ومن عاد إلى معاني هذه الآيات وتفسيرها، سواء في القواميس أو المعاجم أو عند المفسرين، لوجد الإجابات اليقينية على هذا الوجوب، ولما احتاج الأمر إلى المجادلة والأخذ والرد.
ولكن لأننا نعيش في زمان صعب، وهو زمان فتنٍ بحق؛ حيث تُقلب فيه الحقائق، ويصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، وينطق فيه الرويبضة، أقول: لأننا في هذا الزمان فلا بد من الرد على أصحاب وصاحبات هذه الدعوات ضد الحجاب.
من نافلة القول في هذه التدوينة أن أذكر بأنني لا أستهدف شخصاً بعينه، وإنما الفكرة بنفسها التي هي في النهاية فكرة سوء ودعوة جاهلية بين ظهراني المسلمين، فالأمر قد يبتدئ بالحجاب فقط، ولا ندري أين ينتهي بعدها، ونحن نشاهد الانحلال والإباحية ينهشان في جسد الحضارة الغربية ويجعلانها تسير على حافة الهاوية، وتكاد أن تسقط عمَّا قريب.
ليست دعوات خلع الحجاب والنقاب أو تحليل خلعهما أمراً جديداً، فكل هذا يأتي في سياق الحملة الممنهجة على قيم الإسلام وهوية أهل المنطقة، وقد ابتدأت هذه الهجمة المسعورة مع الحملة الفرنسية على مصر؛ حيث يذكر الجبرتي في المجلد الرابع من تاريخه المشهور والمسمى "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" بعضاً من أوضاع النساء إبان الحملة الفرنسية، فعندما يتحدث عن أبرز أحداث عام 1800 م يقول: "ومنها تبرج النساء وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء"، ثم يعزو هذا للاختلاط بالنساء الفرنسيات، وما نشره الفرنسيون في مصر من إفساد للأخلاق.
وتستمر الحملة على حجاب المرأة المسلمة خلال فترة الاحتلال الإنكليزي لمصر؛ حيث انطلقت دعوات خلع الحجاب والبرقع بحجة "تحرير" المرأة، وقادت هذه الدعوات بعض من النسوة كهدى شعراوي وسكرتيراتها سيزا نبراوي وصفية زغلول زوجة سعد زغلول وغيرهن، واستمرت هذه الدعوات على مدار العقود الماضية تعلو أصوات الداعين والداعيات لها أحياناً وتخفت، تفسح الحكومات لأصحابها المجال أو تمنع، وكان هذا بحسب مصالح الحكام وما يديرونه من توازنات في بلدانهم.
ليصل الأمر في السنوات الأخيرة إلى أن نسمع بمليونية لخلع الحجاب في مصر عام 2013 والتي دعا إليها أحد الصحفيين هناك وفشلت فشلاً ذريعاً في ذلك الوقت، لا بل انتهى الأمر بأحد من تسمى بـ"المثقفات " في مصر أن تقول: إن الحجاب ضد الأخلاق! وفي بلدٍ آخر انتهى الأمر بأحد مَن يطلق عليه لقب "مفكر إسلامي" أن يقول: إن الحجاب أمرٌ تراثي، وإنه من صنع المجتمع وليس تشريعاً، وإن الاحتشام معنى اجتماعي لا علاقة له بالدين!
فإذاً لطالما ترافقت الحملات الموجهة ضد المرأة المسلمة وحجابها مع الغزو الأجنبي لبلادنا العربية والإسلامية، فما بدأته فرنسا من هجومٍ شرس على مظاهر هوية المرأة المسلمة ومنها بالطبع الحجاب، أكملته بريطانيا مع بدايات القرن الماضي؛ لتتلقف لواءه وتقوده في النهاية أميركا في العقود الأخيرة، وخاصة بعد حرب الخليج الثانية.
إن الناظر لهذه الدعوات وغيرها يجد من يقف خلفها لا يعدون أن يكونوا إلا ضمن الثلاثة أصناف التالية:
أولاً: جهلةٌ ينطقون عن الله ورسوله بغير علم، فيؤوّلون الآيات والأحاديث وفق أهوائهم ويجعلون من العقل حاكماً نهائياً على النص القرآني؛ وهذا خطأ فادح لا ريب فيه بالطبع فحتى، وإن كان مضمون النص مخالفاً ظاهرياً لما اتفق للعقل عند البدايات، فلا بد أنه عند النهايات والحكم الأخير على الأمر سيتكشف للعقل صحة ما ورد في النص؛ لأن النص من الخالق، وهو أعلم بما فيه صلاح عباده.
ثانياً: باحثون عن الشهرة وحب الظهور بين الناس، حتى وإن كان هذا الأمر على حساب تضليل العامة واللعب بالمصطلحات الشرعية، فهؤلاء يطبقون مقولة "الغاية تبرر الواسطة" بأدق حذافيرها، دون مراعاة لحرمة هذا الأمر.
وهنا قبل الحديث عن الصنف الثالث، فإنني أورد ما جاء في أحد تقارير مؤسسة راند تحت اسم "الإسلام الديمقراطي المدني" حيث جاء في قسم منه بعنوان "ملبس المرأة": (من وجهة نظر موضوعية بحتة فمن المستغرب أن تثير قضية الحجاب كل هذا القدر من الاهتمام؛ إذ من الواضح أن القرآن لا يفرضه).
تصوروا هكذا أصبحت مؤسسة راند هي من تُفتي للبعض! وأصبح ما تقرره أميركا هو الإسلام الحقيقي وما سواه ليس بإسلام، وهذا يقودني مباشرةً إلى الحديث عن الصنف الثالث.
ثالثاً: وهم قومٌ يرددون ما يردده الغرب وينطقون بلسان الحضارة الغربية في مجتمعاتنا لا بل بعضهم مدفوعٌ من هذه الجهات لمسخ الهوية العربية الإسلامية وإحلال قيم ومبادئ الحضارة المادية الغربية من خلال نشر (الإسلام الأميركي)، والقول عن رموز الهوية الإسلامية ومنها الحجاب إنها تقاليد عفا عليها الزمان ويجب الانعتاق منها.
يقول مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله تعالى- في كتابه "وحي القلم" في معرض ردّه على مَن يدعون تحرير المرأة وهم على العكس تماماً يريدون فصل المرأة المسلمة عن دينها وهويتها بحجة التخلص من التقاليد: " تقاليد؟ فما هي المرأة من دون تقاليد؟ إنها البلاد الجميلة بغير جيش، إنها الكنز المخبوء معرضاً لأعين اللصوص، تحوطه الغفلة لا المراقبة.
هب الناس جميعاً متعففين متصاونين فإن معنى كلمة كنز متى تركت له الحرية وأغفل من تقاليد الحراسة، أوجدت حريته بنفسها معنى كلمة لص".
وفي رأيي أن دعوات خلع الحجاب تكون أخطر ما تكون عندما تخرج من امرأة إلى امرأة ثانية، ومن فتاة إلى فتاة أخرى، فكلمات الفتيات والنسوة فيما بينهن قد تكون أشد تأثيراً من كلمات الرجال للنساء، ولهذا أقول لتلك التي تدعو قريناتها من النسوة والفتيات ليخلعن حجابهن وتعزز هذا بلَيّ أعناق النصوص الشرعية:
اخلعي حجابك وأريحينا، ولكن دون تبرير للمعصية والذنب، فعسى الله أن يتوب على العاصي، وأن يغفر ذنب المذنب، فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، ولكن حين يتم تبرير الذنب وتسويغه للناس على أنه ليس بذنب فهنا تقع الطامة الكبرى.
اخلعي حجابك وأريحينا، ولكن لا تدلّسي على الناس أمر دينهم، ولا تقومي بإنزال الآيات والأحاديث وأقوال الأئمة والعلماء في غير موضعها؛ لكي تخدمي أغراضك وما تهدف إليه نفسك في النهاية..
اخلعي حجابك وأريحينا، ولكن بهدوء ودون ضجة إعلامية، فلست مضطرة لمشاهد "الشو الإعلامية" وأنتِ تقومين بخلع الحجاب وكأنك تقومين بـ"فتح عظيمٍ"!
وفي النهاية فهذه الكلمات ليست دعوة لخلع الحجاب -معاذ الله- وليست هذه الكلمات موجهةً لغير المحجبات، بل فقط لأولئك الذين يقومون بخلط الأمور على الناس ونسف إجماع العلماء وتحليل الحرام، قال تعالى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) فهل من مدَّكر ومتدبر لآيات الله تعالى؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.