قصة سورية

كانت الكرة الأرضية تتابع دورانها غير عابئة بهما أو بالعصفورين، ولا بألوان الفراشة وحركاتها المرتجفة. القمر أيضاً كان مشغولاً. كذلك بائع البوظة خارج السور. الحزن عملةٌ عالميةٌ لا يضاهيها الدولار أو اليورو، ولا كلّ ريالات ودينارات ودراهم بلاد النفط.

عربي بوست
تم النشر: 2016/04/03 الساعة 04:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/04/03 الساعة 04:06 بتوقيت غرينتش

الطريقُ إلى المقبرةِ ضَمَّهما، يُجللهما الحزنُ، تُفرقهما كتب التاريخ، تجمعهما الدموع. عندَ البوابةِ توقفتا وكلٌّ منهما تدفع الأخرى أمامها بِلُطْفِ أُمٍّ فقدتْ وليدها. داخل المقبرة، افترقتا بعد أن قَسَمَتْ إحداهما باقتها من الريحان وأعطتْ نصفها لرفيقتها. لم يُعكّرْ وجودهما وحزنهما الأنيق داخل المقبرة حتى صفو عصفورين دوريين يتناوبان على نقر حبة كرز سَقَطتْ من عابر سبيل. ولا لَفْت انتباه فراشة غارقة بألوانها تتنقّلُ بين أزهارِ الأقحوان كأنها لطخة فوق لوحةِ فنان.

صمتٌ هو صمتُ المقابرِ الشهير. بالكاد صوتُ طقطقةٍ خفيفةٍ لوريقات شجر الكينا اليابسة تَصْدُرُ من تحت أقدامهما، وهما تتنقّلان بين القبور لتصلا إلى وجهتيهما حيث سكن الحبيب. أعشابٌ بريَّة وأشْنيات خضراء تعلوها رؤوسُ بيضاءُ تزيّن القبور. أشعة الشمس ترسم ظلال بعض الحشرات فوق أوراق الخبيزة على طرفي الطريق، والكثير الكثير من النمل الأسود يتنقّل في خطوط طويلة متعرّجة كأنها جنازات أو أنَّ المكان يوحي لمنْ فيهِ بما فيه.

كانت الكرة الأرضية تتابع دورانها غير عابئة بهما أو بالعصفورين، ولا بألوان الفراشة وحركاتها المرتجفة. القمر أيضاً كان مشغولاً. كذلك بائع البوظة خارج السور. الحزن عملةٌ عالميةٌ لا يضاهيها الدولار أو اليورو، ولا كلّ ريالات ودينارات ودراهم بلاد النفط. الحزنُ لا يُصرَفُ إلّا في بنك الدموع ولا بنكَ للدموع فماذا ستفعل الأمهات والأخوات والآباء والأبناء وكلّ من هزّهم الحزن على فقدان حبيب؟! أيُّ دموعٍ هي دموعُ الأمهات؟! أيُّ صمتٍ هو صمتُ الرجال في حضرةِ موتٍ يخطفُ الأبناء؟!

كانت زيارتهما طويلة في منطق الزمن، قصيرة في منطق من يحيك الزمن، وكلتاهما أمٌّ أكَلَ الزمنُ من يديها، وهما تحيكان أسباب الحياة، ابتداءً من حبل السرّة في رحمهما إلى آخرِ جوربٍ صوفيٍ أو قبعةٍ أو لحافٍ يردُّ البردَ عَمَّنْ لا برد بعدَ اليومَ يؤذيه. وضعتْ كلّ منهما نصف باقة الريحان خاصتها فوق كبدها وفوق بقايا الدمع على القبر. وقبل أن تستديرا مغادرتين المكان الذي لن يغادرهما، ربتتا على الحجر اللين الطري وبقي صدى صوتيهما يتلو آيات من القرآن الكريم بأخطاءٍ لا يتسامح معها إلا إله رحيم. في طريق العودة تقابلتا من جديد ولم تسعفهما الكلمات، فكان الخَرَسُ ثم العِنَاقُ الطويل وتقاسم الأنين، أمّ القاتل وأم القتيل.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد