كلنا نفكر في المال وطرق الحصول عليه، بل إن بعضاً منا يُكرس حياته بأكملها ليجمع ما استطاع منه.. في وقتٍ من الأوقات ظهر فيلسوف بدا أنهُ أدرك الأمر وأراد المُساعدة، معترفاً أن في الحياة لذائِذ عدة لابُدّ أن تُعاش:
"لا أعلم طريقة أدرك بها الخير من دون لذائِذ التذوق، ولذائذ السمع، ولذائِذ الأشياء الجميلة".
كان القائِل "أبيقور" فيلسوفاً في جزيرةٍ خضراء على الساحِل الغربي لقارة آسيا، قرر تنظيم فلسفته الخاصة للحياة، وألف 300 كتاب عن الموسيقى والطبيعة والحُب وغيرها.. وأكد في كل كتبه تقريباً على أهميّة اللذة الحسيّة:
"اللذة هي منطق وغاية الحياة السعيدة"
"
أقرّ الفيلسوف بعشقه للطعام الممتاز:
"منطلق وجذر كل خير هو لذة المعدة"
"
كانت اعترافات أبيقور صادمة، خاصة للفلاسفة الذين لم يعتادوا مثل هذه التصريحات المُتعلقة بالمُتعة، لكنه جذب انتباه الأغنياء الذين كانوا يشعرون بأنّ المال لم يجعلهم في حالٍ معنويّة أفضل، فأغدقوا عليهِ بالأموال ليستثمرها في بناء مؤسسة فلسفية مهمتها "نشر السعادة".. كانت المؤسسة تشجع الناس على عيش اللذة والشغف ودراستها في نفس الوقت، مُحاولاً بذلك مساعدتنا على حل نوبات اليأس والإحباط البشريّة، وأن نرى في الحياة جانبها الجميل.
ارتبط اسم أبيقور بالسعادة، ففي قاموس أكسفورد، كلمة أبيقوري تعني: المُترف، الساعي إلى اللذة.
وفي لندن تمّ طباعة مجلّة دورية إسمها "أبيقوريان لايف" تهتم بالفنادق والمطاعم واليخوت، وكل وسائِل الترف.
بعد أن ارتبط به كل هذا، ظهرت المفاجأة! وصُدم الجميع عندما اكتشفوا الميول الحقيقيّة لفيلسوف اللذة.. فلم يكُن يملك منزلاً كبيراً وأموالاً كثيرة، وكان يشرب الماء بدلاً عن الخمر، ويستمتع بعشاء من الخبز والخضار..
لم يكن يريد أن يخدع أحداً، لكنه رأى اللذة بشكل أكبر بكثير من المعاني الماديّة البحتة، ولخصها في عدة أمور:
1- الصداقة:
بعد عودته من رحلةٍ دراسية، انتقل للسكن مع عدة أصدقاء، وقال في ذلك: "من بين جميع الأشياء التي تمنحنا السَعادة، يعتبر امتلاك الأصدقاء أعظمها على الإطلاق".
وكان يحمل للرفقة ولاءً كبيراً حتى أوصى: "قبل أن تأكل أو تشرب أي شيء، فكر بمن ستأكل وتشرب معه، لا بما ستأكله وتشربه"
كان منزل أبيقور يشبه منزل عائلة كبيرة مكونة من الكثير من الأصدقاء، لكن بدون إحساسٍ بالضيق والنكد، لأن الصداقة الحقيقية أقرب طريق نحو سعادة القلب وراحته.
2- الحرية:
لم يكن أبيقور وأصدقاؤه يحبون أن يعملوا لدى أشخاص لا يستسيغونهم، لذا قاموا بترك العمل بحثاً عن حُريتهم، واشتروا حديقة بالقرب من منزلهم، زرعوا فيها أصنافاً من الخُضار والفاكهة ليأكلوا منها، مؤمنين بأنّ الطعام اللذيذ ليس من الضروري أن يكون مُكلفاً، وأنّ ما تمنحهُ الطبيعة هو الأفضل دائماً.. فلا داعي للتباهي بالماديات لأن البساطة هي أيضاً طريقٌ نحو السعادة.
3- التفكير:
كان الكثير من أصدقاء أبيقور مفكرين/ات، مثله، وكان أكثر ما يعجبهم هو الاسترخاء في الحديقة والتفكير والتأمُل مليًّا في العالم والبشر.. وقيل إنهُ قام بتأليف 12 كتاباً في حديقة الخُضار تلك، لما يبعثهُ التفكير من سكينة وقدرة على تحليل الأمور ووضعها في مواضعها الصحيحة، مما يجعلنا نختار الخيارات الأقرب لسعاداتنا.
بالطبع لم يكن أبيقور يقول بأن من يملكون الثورة تُعساء، لكنه كان يعتقد بأننا لن نكون سعداء لو امتلكنا السيارة الفخمة من دون أصدقاء، وفيلا من دون حُريّة، وملاءات ناعمة مع الكثير من تشتت الذهن والأرق!
أما بالنسبة للخائفين من فقدان المال أو العاجزين عن اكتسابه، أشار أبيقور بأن السعادة تعتمد في الأصل على وسائل سيكولوجية لاعلاقة لها بشكل مباشر بالأمور الماديّة، باستثناء أولويات الحياة البشرية.
فالعقل يتعامل مع آكل اللحوم كما يتعامل مع آكل الخبز، ومستويات السعادة في الاثنين لا تختلف لأن المُهم هو الإشباع.
وبحسب أبيقور: "
نكون سعداء إن لم نكن نُعاني الألم"
فالمُهم أن نرتدي ملابس دافئة، لا يُهم إن كانت صوفاً عاديًّا أو كشميراً، وأن نأكل ما يُشبع جوعنا، لا يُهم ما إذا كان شطيرة أو اسكالوب، فالحالة الذهنيّة في الحالتين مُتماثلة بالضبط.
إذا كانت الأشياء الغاليّة لا تجلب السعادة، فلماذا ننجذب إليها بهذه القوة؟!
يتمنى الشخص المُصاب بالصُداع لو أنهُ يضغط على رأسه بقوة أو يصنع ثُقباً فيها لكي يزول الصُداع..
فللحظة يشعر بأنّ هذا هو الحل المعقول للألم الشديد الذي يشعر به!
كذلك الأشياء الثمينة التي نحسبها حلولاً معقولة لاحتياجاتنا السيكلوجيّة التي نعجز عن فهمها، وبدلاً من أن نُنظم أذهاننا وأولوياتنا، ننجذب إلى رفوف المحال لنشتري ملابس حريريّة جديدة لتحل محل أحاديث الأصدقاء وضحكاتهم.
فالعوامل المُحيطة التي يتسابق فيها الناس على امتلاك ما لذَّ وطاب، لا تتطرق أبداً للاسترخاء والصداقة والحُريّة، إنما تُروج للكثير من المُغريات الماديّة ذات السعادة الوقتيّة.
في منتصف البلدة، رُفعت أعمدة شاهقة طولها 80 متراً، كتب عليها 25 ألف كلمة تروج لأهميّة الصداقة والحُريّة والحياة الهادئة، ومن ضمن العبارات الأبيقوريّة التي كُتبت بالعريض:
الطعام والشراب المُترف لا يمنح النجاة من الأذى، والثورة الزائدة عن الحد غير ذات نفع، كما الماء في وعاء ممتلئ إلى حافته، والقيمة الحقيقيّة ليست في الصالات الواسعة والعطور، وإنما في العلم والعمل.
وكتب في حافة الجدار:
بعد أن بلغتُ غروب حياتي، أردتُ قبل أن يباغتني الموت، أن أحتفي بوصولي إلى ذروة اللذة.. وبما أن غالبيّة الناس أسرى لمرض التفكير الخاطئ، نويتُ استخدام هذا الجدار لنشر الترياق الذي سيمنحهم الخلاص.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.