لطالما كنت من أكثر الناس استنكاراً لمسلسل البيئة الشامي "باب الحارة"، الذي يحكي لنا أحداثاً جرت في حارة شعبية في بداية القرن العشرين، حينما وقفت أمام حضارة مدينتي العريقة، شعرت بالخيبة والضيق، لم أرَ في هذا المسلسل الشامي سوى تشويه وتنكيل لما تبقى من حضارتنا، إلا أن أتى ذلك اليوم الذي قررت فيه أن أتبنى الموقف الآخر، لأسأل نفسي: ماذا لو كان باب الحارة ذلك المسلسل الذي لطالما نظرنا إليه على أنه تشويه، هو تصوير لواقعنا الاجتماعي المؤلم؟ ماذا لو كان مجتمعنا مجتمعاً عتيقاً يرتدي قناع التطور يختنق بغبار الماضي، ولكن ببدلات رسمية وسراويل مصنوعة من الجينز، وتسريحات شعر وفق الموضة؟!
قلت أنا، كما قال الجميع في بلدي: مسلسل باب الحارة لا يمثل الثقافة الدمشقية، ولا يمثل حضارة مجتمعنا في الفترة التي يزعم فيها صناع المسلسل أنه يحكي تفاصيلها، ولكن كيف لنا أن نجد خير ممثل لحضارة دمشق؟ كيف لنا أن نختار مَن يمثل حضارة أو ديناً أو معتقداً أو ثقافة ومَن لا يمثلها؟ كيف يمكن لأيديولوجيا ممتدة على مساحة جغرافية مهما كبرت أو صغرت أن تجد جميع الناس تعبر عن هذه الأيديولوجيا بطريقة واحدة؟!
أليس في جملة "لا يمثل" نسف للمنطق، خاصة إن كانت لهذه الأيديولوجيا أو المجتمع أوجه مختلفة، أفكار مختلفة، خاصة إذا كان له مزيج من أديان وثقافات وانتماءات مختلفة، في مدينة كدمشق من الصعب أو من المستحيل أن تجد جميع الناس تفكر بالطريقة ذاتها، وتعبر عن الثقافة الدمشقية بالطريقة ذاتها.
الفترة التي يحكي تفاصيلها مسلسل باب الحارة لم تكن مظلمة بالكامل بالنسبة للمرأة وللتحرر الفكري الاجتماعي، فكان بإمكانك أن تتجول في الجامعات لترى بعض النساء المثقفات يطلبن العلم ويشاركن في بناء الوطن، وكان بإمكانك أيضاً أن تجد نساء يتحاورن بمنتدى أدبي، ولكن لو تجولت في دمشق آنذاك كنت ستجد أيضاً نساء يختبئن خلف الأبواب، يثير صوت أخيهن الذي لم يظهر ربما شارباه بعد الخوف في قلوبهن، كنت سترى نساء يعقدن "صبحيات" نسائية عن طرق تقبّل المرأة للزوجة الثانية "الضرة"، وكنت ستجد الناس تؤمن بالأسحار والتمائم، كما يلعنها وفي نفس المدينة شباب وشابات من المثقفين والمتنورين، فبأي حق نقول نحن لا يمثل الحضارة الدمشقية!
وليصبح تقبل الفكرة أقرب إلى أذهانكم، لنتخيل مسلسلاً يصور حياة الدمشقيين اليوم، تمّت صناعته بعد مائة عام من عامنا الحالي، ويحكى فيه أن الفتيات وبنسب كبيرة يحرم عليهن دخول مجال التمثيل والفن، وأنه لا يمكن للفتيات السفر بمفردهن لأوروبا مثلاً لمتابعة تعليمهن إلا مَن رحم ربي، هل من الصحيح أن نحضر للرأي العام صور بعض الممثلات السوريات، وأن نستعرض صورة فتيات متحررات تحدين مجتمعهن وكلام الناس وقررن خوض تجربة السفر بالرغم من تجريد المجتمع لهن من شرفهن وأخلاقهن ومعاداته لهن، لنبرئ مجتمعنا من تهم التخلف التي تلصق به يميناً ويساراً، ولنقول بأعلى أصواتنا: "هذا المسلسل لا يمثل الحضارة الدمشقية آنذاك".
وبالرغم من ذلك كلّه، لم تزعجني نتائج تلك الوقفة الموضوعية التي وقفتها مع نفسي إزاء مشكلة "من يمثل حضارة مدينتي"، بقدر ما أفزعني إدراكي لحقيقة أخرى، وهي حقيقة أشد مرارة وخيبة، حقيقة أن باب الحارة المسلسل الذي رفض تخلفه الكثيرون، قد يكون يعكس بطريقة أو بأخرى واقعنا الحالي، اليوم في القرن الواحد والعشرين!
وبعد مضيّ ما يقرب من مائة عام على الفترة التي يحكي أحداثها، لا تصدقني أليس كذلك؟ حسناً لنذهب جولة في أروقة محاكم العدل، لنرى معاً عدد الرجال الذين أباحوا لأنفسهم الزواج بثانية وثالثة ورابعة، بمباركة أيضاً من المجتمع والمصاب اليوم أعظم من مصاب زواج عصام على زوجاته، فزوجات عصام لم يكن على القدر نفسه من العلم والثقافة والمؤهلات العملية التي تتمتع بها نساؤنا اليوم!
أنت الآن ستخبرني أن فتياتنا يذهبن إلى الجامعات، يتلقين العلم ويدرسن ويتثقفن ولكن بنظرة واحدة لهذا العالم، سترى نساء يشاركن بإدارة أكبر الشركات التجارية في العالم، ستجد أخريات يحضرن أمتعتهن لرحلات فضائية، وعليه فالالتحاق بالجامعة ليس مقياساً لتحرر المرأة وانفتاح المجتمع الفكري بعد الآن!
قد يكون موقفنا من هذا المسلسل ليس سوى ردة فعل على تلك الصفعة المؤلمة التي وجهها لنا؛ لأنه ربما أرانا الوجه الآخر لمجتمعنا، ذلك الوجه الذي لا نرغب بالكشف عنه حتى أمام أنفسنا في المرآة.
قضينا تسع سنوات وربما أكثر مختبئين خلف إصبعنا، لم نتمكن من تجاوز عقباتنا ولا مشاكلنا منذ مائة عام؛ لأننا تقاعسنا عن الاعتراف بوجود التخلف والانغلاق؛ لأننا رغبنا أن نلمع صورة مجتمع متآكل بمعظمه، مستندين على قلة من المفكرين والمتحررين وكأن التحرر والانفتاح الفكري فرض كفاية، كل ذلك لنرقع أخطاء هذه المنظومة الاجتماعية المتهالكة، ونصرخ بأعلى صوتنا: هذا لا يمثلنا!
ربما المأخذ الوحيد على هذا المسلسل الشعبي أنه لم يحاول بشكل جديّ تسليط الضوء على الجميل والمتسامي وعلى الحريات غير المسبوقة على صعيد الوطن العربي التي نالتها النساء في سوريا آنذاك، ولكن لا يحق لنا بعد اليوم أن نهاجم المسلسل بمقولتنا الساذجة: هذا لا يمثلنا!
لأن وجود عظيمات كماري العجمي وعادلة بيهم ولوريس ماهر، لم ولن ينفي وجود أم عصام وفوزية وأم زكي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.