لا يختلف مفكران في مسألة التناسب الطردي والتفاعل الجدلي بين درجتَي المحظورات السلوكية والفكرية والتناقضات الاجتماعية في كل مجتمع من ناحية، وبين هذه وتلك ومستوى التخلف في أي مجتمع من ناحية أخرى!
وفي واقع غارق في التخلف كواقعنا العربي الطافح بالتناقضات والتوترات ليس غريباً أن نجد ذلك الكمّ الضخم من الحظورات والمحظورات على كافة الصعد، التي يتصدرها بالطبع ثالوث الدين والسياسة والجنس، وهذا ما يجعل مسألة الكتابة والنشر عن أي منها أمراً على درجة عالية من المشقة غالباً، بل والخطر في كثير من الأحيان، وليس من النادر أن يتهرب الناشرون من النشر في هذه المسألة بذرائع شتى تجنباً للعواقب المختلفة، فمثلاً عند التوجه إلى ناشر بموضوع حساس يتعلق بالدين أو يمسه، فاحتمال رفض هذا الموضوع بدعوى الابتعاد عن إثارة الحساسيات والنعرات والعصبيات الطائفية وما شابه هو عادة، وكأن السكوت عن العيوب الجمة والضخمة في واقعنا الديني هو الموقف السليم والكافي لمعالجة هذه العيوب!
لكن من بديهيات الأمور أن تعرية مكامن العيب والخلل هي شرط لازم لا غنى عنه في أي مسعى لمعالجتهما، وما يبتغيه هذا المقال هو الإشارة إلى موضع خلل شديد الخطورة في الشخصية العربية، وهو كذلك لأنه مرتبط بقضية الدين وما تحمله بدورها من حساسية وخطورة عند التعاطي معها!
إن الدين هو قضية ذات طابع إيماني عاطفي تسليمي، وهو يقوم عادة على التلقين بالوراثة الاجتماعية، ويتوارثه السلف عن الخلف بشكل تقليدي كمسلّمة، دون أية مساءلة عقلانية أو محاكمة فكرية، وهكذا ينشأ ابن المسلم في الغالبية الساحقة من الحالات مسلماً كأبيه، وكذلك الحال مع ابن المسيحي وابن اليهودي أو الهندوسي أو البوذي وغيرها من الأديان التي تنشئ بدورها الأبناء على نمط الآباء، وهذا يعني عند الكلام بدقة وصراحة أن الدين ليس خياراً عقلانياً ولا معرفياً عند الإنسان، إنه خيار مجانِب للعقل، بل هو عموماً ليس حتى بخيار يختاره الإنسان نتيجة بحث أو موقف معقلن وإرادة حرة إلا في نادر الأحوال!
وبما أن الدين يربط الشخص عادة بمرجعية عظمى فوق إنسانية ومنفصلة عن الإنسان، هي الألوهية على اختلاف صورها في الأديان المختلفة، ويجعل منها مصدر الحقيقة والحق، فهذا في المحصلة يسلب من المتدين فاعليته الذاتية في تحديد الحقيقة بمفهومها العقلاني المعرفي، وفي تحديد الحق بمفهومه الضميري الأخلاقي، ويرتهنهما لقوة خارجية مقدسة هي الإله الذي يؤمن به هذا المتدين، ويجد بيانهما والتعبير عنهما في الكتب المقدسة المرسلة افتراضاً من قِبل هذا الإله عن طريق أنبيائه، والمحمية دوماً من قِبل رجال دينه، الذين يجعلون من أنفسهم أولياء الأمر والنهي، الذين يحددون للشخص القواعد التي يجب أن يقنن بها حياته، ويدير بها علاقاته مع غيره، ويبني في إطارها مجتمعه وعالمه.
المتدين -فرداً كان أم جماعة- لا ينظم حياته ويتخذ قراراته ويبني مواقفه على أسس العقل والإرادة الإنسانيتين، ويكون هو الفاعل في هذه العملية، بل ينيطها تسليماً بالسلطة الدينية؛ لتقوم بذلك بموجب مشروعيتها الدينية ووفقاً لمرجعيتها الدينية المستمدتين من خارج العالم الإنساني.
وهذا عدا عن كونه مصادرة لبعد الفاعلية الذاتية عند المتدين وحرمانه من إمكانية البحث والاختيار والقرار ذاتياً، وإناطتها بجهات لم يقُم هو بتكليفها ولا باختيارها بنفسه بشكل واعٍ حر، بل فرضت نفسها عليه فرضاً بشرعية منزلة من مستوى علواني مفترض، هو أيضاً مصادرة لبعد الإنسانية لديه، فهو لا يلزم أصحاب القرار بأية مرجعية أو معيارية إنسانية، بل يلزمهم نظرياً بالمرجعية المقدسة الإلهية المفترضة، وهو علاوة عن ذلك يعطيهم الحصانة من المراقبة والمساءلة بضمهم إلى هذه المرجعية المقدسة وإضفاء قدسيتها عليهم، فالكاهن أو مَن يقوم مقامه، هو بعرف أتباعه شخص مقدس أو ممثل للمقدس، وهو بنفس الوقت القائم على المقدس وحارسه ومطبق أمره، وهو لا يخضع لأي رقيب أو حسيب، وبذلك يصبح هو بنفسه المحدد لما يجب أن يلتزم هو نفسه به والرقيب لنفسه على هذا الالتزام والمنفذ له، وكأنه القاضي الذي جمع في شخصه أيضاً وظائف التشريع والتفتيش والشرطة.
هذه الطبيعة الاستلابية العامة للعلاقة الدينية تشكل عموماً المبدأ التأسيسي لعلاقة الشخص المتدين بالسلطة الدينية منمذجة كعلاقة بين الراعي والرعية، وقابلة في الظروف المناسبة -وما أكثرها- للانزلاق إلى مستوى الراعي والقطيع، الذي تنحدر فيه الرعية إلى درك القطيعية، وهذا منوط بدوره بجملة من العوامل الذاتية الداخلية كدرجة الغيبية والتسليم في الدين نفسه والعصبية للمذهب أو للملّة، وبجملة من العوامل الموضوعية الخارجية كالظروف الاجتماعية المتردية أو التدخلات الأجنبية.
في مثل هذه الظروف الحرجة تصبح الشخصية المتدينة الفاقدة لعنصر الفاعلية الذاتي ولمعيارية الحق والخير الذاتية المبنية على أساس إنساني عقلاني شديدة القابلية للتطرف والعنف، فالظروف الحرجة تضعف غالباً المناعة الإنسانية حتى للإنسان الفاعل على مستوى الفعل، والمالك للعقل والضمير الذاتيين كأساسين لبناء منظومتي المعرفة والأخلاق المتفاعلتين والمتتامتين الخاصتين به، فكيف بالشخص الذي ليس لديه شيء ذاتي خاص به من هذا القبيل، وكل ما لديه من نواظم وضوابط مستمدة من الخارج.
هذا الشخص ذو المرجعية القياسية والقيمية الخارجية، المتخارجة مع الذات عقلاً وضميراً، والمتخارجة مع الإنسان معياراً، كونها مستمدة من رب مفترض ذي طبيعة إلهية منفصلة ومتعالية عن طبيعة الإنسان، هو شخص لا يبني علاقته مع الآخر على أساس الندّية الإنسانية والقيم الإنسانية، بل على أساس التعاليم الدينية المستمدة عبر السلطة الدينية من الإله المفترض، مما يؤدي بموجب ربانيتها المزعومة إلى الفصل بين إنسانيته الذاتية ومعياريته القيمية، ويزداد الشرخ بينهما بقدر ما يزداد هذا الشخص شدة وتشدداً في تدينه، وتتحدد بالتالي علاقته مع الآخر ودرجة مقبوليته له وفقاً لموقعه كآخر في هذه المعيارية وليس وفقاً لكونه إنساناً يتعامل مع إنسان مثله.
ومن المعروف أنه في الأوقات الصعبة يصبح الناس عادة أكثر تديناً؛ حيث يجدون في الدين ملجأً ومهرباً من مساوئ الواقع، كما أنهم في هذه الظروف المأزومة يصبحون أكثر توتراً وفقداناً للاستقرار النفسي والتعقل، وأكثر عصبية واستعداداً للعنف، وفي مثل هذا الحال يصبح من السهل قيادة المتدين باسم الدين وتوجيهه نحو العنف ضد الغير، فإن تواجدت المصلحة الخبيثة، وهي من النادر ألا تكون غائبة، فمن السهل عليها في الأزمات استغلال المتدين المأزوم الهارب إلى التشدد الديني والشديد التوتر والاضطراب، وتجنيده لخدمة سياساتها، جاعلة منه متديناً عنيفاً عبر تغذية نزعته اللجوئية إلى الدين، التشددية بطابعها، ودفعها إلى أقصى درجات التطرف التي يحولها إلى إرهاب حقيقي، يتم فيه تحت غطاء ديني التكفير والقتل والسبي والنهب والتشريد والتدمير وهلم جراً..
إن الغالبية العظمى من أبناء شعوب المنطقة العربية هم متدينون، وجلهم من نمط المتدين السلبي أو المستلب، وهذه الحالة من التدين الاستلابي مترافقة ومتلازمة مع ظروف على درجة شديدة من التردي الاجتماعي على كافة الصعد، ومحاطة إقليمياً ودولياً بالعديد من أصحاب المطامع والمآرب المغرضة، وهذا ما يجعلها في المحصلة البيئة الأخصب عالمياً لإنتاج التطرف والعنف والإرهاب؛ لكن قرن هذه الآفات بالدين وحده هو اجتزاء مزدوج للحقيقة، فالدين بشكله المتشدد اللامعقلن بالطبع يلعب دوره الكبير في هذا، لكنه ليس اللاعب الوحيد، فالتردي الاجتماعي بكافة جوانبه والتدخلات الأجنبية بكافة أطرافها هي أطراف أساسية في هذه اللعبة المأساوية، هذا إضافة إلى عامل جوهري هام آخر، يتمثل في كون التشدد اللامعقلن في التعاطي مع الدين بحد ذاته هو أيضاً حصيلة انعكاس الظروف الاجتماعية المتردية على علاقة الشخص بالدين، وليست عاملاً دينياً محضاً خاصاً بالدين وحده ومنعزل عن محيطه، فالدين هو في الواقع عنصر فاعل ومنفعل في بيئته الاجتماعية، ويتفاعل مع بقية عناصرها الأساسية، وهذا ما يجب ألا نجهله أو نتجاهله عند سعينا الواعي للبحث عن حلول ومخارج لأزمتنا المستفحلة.