غصن الزيتون والتحالفات المتناقضة

نحن لا نتحدث فقط عن مواجهة بين تركيا والأكراد بمعزل عن فاعِلين آخرين في الساحة. لدينا أميركا، وروسيا وإيران، والجيش السوري الحر، وقوات بشار الأسد، ولكل طرف في هذا المشهد حسابات ومصالح وأهداف.

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/26 الساعة 11:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/26 الساعة 11:54 بتوقيت غرينتش

دخلت العملية العسكرية التي يشنها الجيش التركي، بمساندة مقاتلين من الجيش السوري الحر، على عفرين (شمال سوريا) شهرها الأول، وربما أكون من بين كثيرين تفحصوا المشهد حينها ليجدوا تشابكاً يصعب معه فهم التحالفات والمآلات.

فنحن لا نتحدث فقط عن مواجهة بين تركيا والأكراد بمعزل عن فاعِلين آخرين في الساحة. لدينا أميركا، وروسيا وإيران، والجيش السوري الحر، وقوات بشار الأسد، ولكل طرف في هذا المشهد حسابات ومصالح وأهداف.

في هذا المقال، أحاول تفكيك المشهد المزدحم بتطورات متسارعة، مستعينةً ببعض مشاهداتي الميدانية التي رصدتها بالمناطق الخاضعة لـ"قوات سوريا الديمقراطية" في شمال سوريا، بعد أن تم إيفادي، في مايو/أيار 2016، إلى تلك المنطقة من أجل تغطية مجريات المعارك مع تنظيم الدولة (داعش) في محيط الرقة وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي.

دعونا نقسم المقال وفقاً للقوى الرئيسة اللاعبة في سوريا.

تركيا:

بعيداً عن العواطف، معركة "عفرين" ليست سهلة. والقتال فيها سيمتد شهوراً، ودخول الجيش التركي إلى عفرين يعني أن دماء كثيرة ستسيل من الطرفين المتواجهَين بشكل مباشر على الأرض؛ وهما: "قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة أميركياً، والجيش السوري الحر المدعوم تركيّاً والذي يشعر بوخزة الانتقام بعد أن انتزع الكرد منه مناطق نفوذ واسعة شمال غربي سوريا، مثل منبج وتل رفعت، في الوقت الذي كانت فيه فصائل المعارضة السورية منشغلة بقتال قوات النظام السوري.

نعم، حقق "الجيش الحر" بعض المكاسب حتى الآن من تحرير قرى وسيطرة على مناطق استراتيجية كجبل برصايا في محيط عفرين، لكن بالتمعن أكثر في موضعه من المعادلة الحالية، سنجد أنه الحلقة الأضعف وقد زُج به في معركة ليست له.

يجب أن يتذكر مقاتلو الجيش السوري الحر، وهم في مقدمة القوات التركية، أن ليس كل الأكراد "قوات سوريا الديمقراطية". فخلال مهمتي الميدانية، قابلت في تلك المناطق أكراداً انخرطوا مع الجيش السوري الحر مع انطلاق الثورة السورية، وشكَّلوا كتائب عسكرية مثل باقي مناطق سوريا، لكن سرعان ما أجهزت "قوات سوريا الديمقراطية" عليهم وأنهت أي وجود لهم.

الصراع التركي-الكردي تاريخي، وعملية "غصن الزيتون" فصل من فصول كُتبت وستُكتب لاحقاً بين الطرفين. والجيش السوري الحر كان في غنى عن هذه العداوة مع أبناء جلدتهم ممن ذاقوا أيضاً الأمَرّين على يد النظام السوري. حقيقة أن الأكراد اضطُهدوا من قِبل نظام الأسد مسألة لا يحق لأي طرف التشكيك فيها.

لكن، على الأكراد أيضاً أن يستخلصوا العِبر من تجربة إخوانهم أكراد العراق ويدركوا أن أميركا ليست صديقاً حقيقياً يعوَّل عليه. فرغم متانة العلاقات الأميركية-الكردية في العراق، فإن واشنطن أدارت ظهرها لهم عندما قرروا اجراء استفتاء الانفصال، وها هي تكرر الأمر، لكن بشكل مختلف، مع أكراد عفرين، ربما لاستيعاب غضب تركيا قليلاً.

أميركا:

عندما تتحدث عن أميركا، كن حريصاً على تبني شعار "ليس كل ما يقال يصدَّق". وفي عالم السياسة، تقاس الأمور بالأفعال لا بالأقوال. صحيح أن أميركا صرحت، مراراً وتكراراً، بأنها تقدر التخوف التركي وحق أنقرة في الدفاع عن نفسها ضد "الإرهابيين"، وفق تصريحات وزير الخارجية الأميركية ريكس تيلرسون.

لكن، فعلياً، خصصت وزارة الدفاع الأميركية في مشروع ميزانية عام 2019 مبلغ 550 مليون دولار لدعم "قوات سوريا الديمقراطية"، تذهب منها 300 مليون دولار للتدريب، و250 مليون دولار لقوات أمن الحدود التابعة أيضاً لـ"قوات سوريا الديمقراطية".

صحيح أن الميزانية لم تُعتمد بعدُ، لكن هذا يكشف بالتأكيد عن نية الإدارة الأميركية مواصلة دعم أكراد سوريا. ومواقف "البنتاغون" والخارجية عادةً ما تأتي متناغمة، فلا أعلم بأي عين أتى تيلرسون إلى تركيا؟! وماذا كان يريد أو يتوقع؟ كل ما تقوله أميركا تَوقعْ عكسه وانتظر حدوثه تحديداً في كل ما يخص تركيا.

ربما كانت الرسائل الأميركية عبر التحالف الدولي عن تأسيس قوات حدودية جديدة قوامها 30 ألف جندي من الميليشيات الكردية، دافعاً أساسياً وراء إسراع تركيا ببدء عمليتها العسكرية الأخيرة، لكن فور أن أعلنت أنقرة أنها مستمرة في العملية حتى منبج، أرسلت واشنطن رسائل أخرى إلى أنقرة بأن رغبة الأخيرة في توسيع رقعة "درع الفرات" على الخريطة لتصل منبج بعفرين لن تتحقق.

قالت واشنطن إنه لا توجد خطط تقضي بسحب جنودها من منبج، ودعمت رسائلها بزيارات لقادة ميدانيين في الجيش الأميركي للمدينة مطلع فبراير/شباط 2018. وحالياً تدرِّب واشنطن عناصر من "وحدات حماية الشعب الكردية" في الحسكة؛ بغرض تشكيل القوات الحدودية الجديدة التي أعلنت عنها.

دعونا لا ننسَ أن أميركا ليس لديها إلا ورقة "قوات سوريا الديمقراطية" لتضمن لنفسها وجوداً في سوريا، فكل رهاناتها على قوى من المعارضة السورية فشلت، ونحن نعلم أن واشنطن حاولت دعم فصائل من الجيش السوري الحر، لكنها جميعاً لم تصمد أمام التنظيمات الإسلامية.

روسيا:

حتى نفهم موقف روسيا الحالي من عملية "غصن الزيتون"، يجب أن نسأل: ماذا نعرف عن مواقفها السابقة من الأكراد؟ بالعودة إلى الوراء قليلاً، سنجد أن روسيا عملت وسعت من أجل كسب وُدّ أكراد سوريا، خاصة في الفترة التي شهدت فيها العلاقات الروسية-التركية توتراً غير مسبوق.

فكانت أول من سمح لإدارة الحكم الذاتي في مناطق شمال سوريا، الملقبة كردياً بـ"روج آفا"، وتم فتح مكتب تمثيل خارجي لها بموسكو أوائل عام 2016، في تلميح روسي بقبول فكرة فيدرالية سوريا وحصول الأكراد على حكم ذاتي لمناطقهم كمقدمة لدولة مستقلة لاحقاً.

وامتد ذلك إلى التعاون والتنسيق العسكري مع "وحدات حماية الشعب الكردية"، المكون الرئيس لـ"قوات سوريا الديمقراطية"؛ إذ اتفق الطرفان، في مارس/آذار 2017، على إنشاء قاعدة روسية بمنطقة عفرين لتدريب المقاتلين الكرد "كجزء من محاربة الإرهاب"، وفقاً لتصريح المتحدث باسم الوحدات آنذاك، ريدور خليل.

بل إن المتحدث الحالي للوحدات، محمود نوري، أشاد في بيان سابق، بالقيادة العسكرية الروسية في قاعدة حميميم العسكرية، وشكرهم على تقديم الدعم الجوي واللوجيستي والاستشاري على الأرض في محاربة تنظيم الدولة، في إشارة واضحة إلى قتال الأكراد تحت القيادة الروسية وليست الأميركية فقط.

لكن، على النقيض من صور هذا التقارب الروسي-الكردي، اتهم الأكراد روسيا بالخيانة، بعدما آثرت موسكو إخراج قواتها من عفرين قبل يوم واحد من انطلاق "غصن الزيتون".

فالنتائج المنتظرة من العملية تخدم المصالح الروسية، التي لا تريد بالتأكيد أي نفوذ أميركي في المنطقة. لذا، فإن مسألة تشكيل مزيد من القوات الكردية المدعومة أميركيا كانت دافعاً وراء عدم اعتراض روسيا على العملية. وهو الدافع نفسه الذي وضع إيران في موقف المترقب، لكن المطمئن أيضاً.

إيران:

لم يكن الموقف الإيراني واضحاً وصريحاً حول عملية "غصن الزيتون"؛ إما بالتأييد وإما بالمعارضة، وما تابعناه من تصريحات قد يأتي في إطار تثبيت موقف بأننا موجودون ورقم في المعادلة السورية.

إيران وتركيا تلتقيان في قضية الأكراد؛ فكلتاهما -ورغم الخلافات العميقة- توحدت في قضية استفتاء إقليم كردستان العراق، ووضعتهما في خندق واحد لمواجهة الأكراد، لكن في النهاية تتقاطع المصالح ببعض المحاور وتتفرق في أخرى.

لذلك فإن اتفاقهما على مواجهة الأكراد لا يعني قبول إيران بوجود الجيش السوري الحر كبديل أشد خصومة من "قوات سوريا الديمقراطية" اللهم إلا باحتمال وجود تفاهم مسبق مع أنقرة؛ لأن طهران تدرك جيداً أن عملية "غصن الزيتون" هي توسُّع لرقعة "درع الفرات"، ومن ورائه النفوذ التركي في سوريا، وهو ما سيشكل ضغطاً على قوات النظام والميليشيات الإيرانية.

أما إذا كان الأمر فرض واقع في سياق حرب النفوذ والجغرافيا، فإن التقاء المواقف عند نقطة تحجيم النفوذ الأميركي، المتمثل في "قوات سوريا الديمقراطية"، سيعزز في الوقت نفسه من فكرة اختلافها لاحقاً حول تقسيم النفوذ.

فكما نعرف في العرف السياسي، من يمتلك مساحات نفوذ أوسع على الأرض، سيمتلكها أيضاً على طاولة المفاوضات. وهذا يفسر ما جرى من محاولات فاشلة لميليشيات تابعة لحزب الله وقوات الأسد لدخول عفرين، قبل أيام بعد تصدّي الطيران التركي لها.

ومع ذلك، لا أرى أن إيران قلقة من ذلك؛ بل العكس فإن أكراد سوريا سيقبلون بالشيطان لإيقاف تركيا عن التقدم إلى عفرين، وعليه سيلجأون إلى النظام السوري؛ لما بينه وبينهم من تاريخ في التحالف والتنسيق، وقد شاهدت ذلك بأمّ عيني عندما زرت مدينة القامشلي ومررت من وسط المدينة وكان أفراد من الشرطة السورية يقفون إلى جانب تمثال حافظ الأسد.

صحيح أن في وسط المدينة نقاط اشتباك وسواتر ترابية، لكنها صورية وضمن تفاهمات. لذلك، فإن موقف إيران من عملية "غصن الزيتون" طالما لم تتطور، هو موقف المطمئن، حيث وفرت على نفسها الدخول في أي مواجهة عسكرية أو ربما أخَّرتها.

تحالف الأكراد مع النظام السوري حول عفرين يعني أنه سيتم بموافقة إيران وروسيا، وبغض الطرف من تركيا. وهذه التفاهمات بين النظام والأكراد ستضمن إيجاد أسس لتحجيم نشاط انفصالي كردي تدعمه أميركا.

لذلك، أعتقد أن هناك تفاهمات في طريقها إلينا ويمكن أن تنفَّذ على الأرض. تركيا تريد عمقاً آمناً داخل الأراضي السورية يضمن عدم عودة الأكراد إلى حدودها. وعليه، يجب أن يعلم الأكراد أن تراجعهم وتخلّيهم عن منبج وتل رفعت سيخفف من الضغط العسكري التركي وسيحقن الكثير من الدماء.

هذه التفاهمات، القائمة في الأصل على التصدي للوجود الأميركي، قد تتم في القمة التي ستجمع بوتين وروحاني وأردوغان في تركيا، رغم تعثر مسار المفاوضات بينهم في أستانا. لكن السؤال الأهم في حال حدوثها: هل ستضمن هذه المواءمات عودة أكثر من ربع مليون سوري فرُّوا نتيجة المعارك ما بين "قوات سوريا الديمقراطية" و"الجيش الحر"؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد