لم تكن الأشهر الماضية أشهر خير على تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) الذي عانى من هزائم وخسائر في معاقله داخل سوريا والعراق.
على الصعيد المحلي
ففي أكتوبر/ تشرين الأول فقد التنظيم هيمنته على مصفاة النفط "بيجي" الرئيسية في العراق، كما أنه خسر في الأسبوع الماضي قاعدة "كويرس" العسكرية المهمة التي استردتها منه قوات الجيش السوري بعد حصار دام 3 سنوات، في حين كانت القوات المقاتلة الكردية قد انتزعت منه بلدة "سنجار" شمال غرب العراق.
هكذا يبدو الوضع الداخلي لداعش.
على الصعيد الدولي
أما خارجياً وعلى الصعيد الدولي، فـ"داعش" يستأثر بالأضواء الإعلامية العالمية بعد الهجمات التي شنها في فرنسا وراح ضحيتها المئات بيت قتيل وجريح قبل أيام فقط.
تداعيات هجمات باريس
الأمر حدا بالمحللين بحسب تقرير نشره موقع فوكاتيف الأميركي، وخبراء الإرهاب للتساؤل حول ما إذا كانت أحداث باريس ليست إلا خطوة يأس فقد بها "داعش" أعصابه، أم أنها تعبير عن اقتدار وبطش "داعش" ثأراً لكبرياء التنظيم المجروح؟ والجواب المختصر كان: يجوز الوجهان.
درجة عالية من النجاح
كولين كلارك خبير مكافحة الإرهاب في مؤسسة راند قال إن "داعش" في سوريا والعراق ينزف فعلاً بعد الضربات الجوية التي تلقاها، إلا أن تنفيذ عمليات كتلك في باريس بل ومجرد الشروع فيها ناهيك عن النجاح بها ضمن حدود أوروبا أمر يتطلب كثيراً من الجرأة والثقة الكبيرة.
المعلومات التي خرجت بها التحقيقات ربطت منفذي عمليات باريس بـ"داعش" ووجدت كذلك خيوطاً قادت إلى ضلوع قياديين في "داعش" في التخطيط للهجمات، ولا يزال التحقيق جارياً في مدى تورط قادة "داعش" من معقلهم بالرقة في سوريا بقيادة العملية وتوجيهها من هناك.
ويذكر أن المعلومات تشير حتى الآن إلى أن 6 من المنفذين الـ8 الذين تكشفت هوياتهم كانوا قد أمضوا برهة من الزمن في سوريا.
أمر مخطط له من قبل
أما مركز "جين" لأبحاث الإرهاب والتمرد التابع لشركة IHS الاستشارية، فقد رأى أن النقلة في استراتيجيات "داعش" وعملياته أمر مبيتٌ سعى داعش لأجله منذ عام تقريباً إن أخذنا بعين الاعتبار كل مخططاته السابقة في أوروبا سواء تلك التي نجحت أم أحبطت.
فجميع الدلائل تشير إلى أن "داعش" عاقد العزم على استغلال مقاتليه العائدين من سوريا لشن هجمات ضخمة توقع أكبر عدد ممكن من الضحايا في صفوف المدنيين في المدن الأوروبية وباستخدام أسلحة خفيفة.
حادثة الطائرة الروسية التي سقطت في 31 أكتوبر/ تشرين الأول فوق سيناء لم تخلُ من دلالات هي الأخرى.
فروسيا أعلنت الثلاثاء 17 نوفمبر/ تشرين الثاني أن الطائرة أسقطتها قنبلة زرعتها يد الإرهاب، كما تجري السلطات المصرية تحقيقات مع أفراد من طاقم مطار شرم الشيخ يشتبه بتورطهم مع التنظيم.
نقلة نوعية
إن كان داعش فعلاً قادراً على تهريب قنبلة على متن الطائرة أو تجنيد عمال في المطار ليسدوا له تلك الخدمة، فذلك يعني أن داعش انتقل إلى "مستوى أعلى تعقيداً بخصوص عمليات تجنيده" وفق ما أدلت به مايا بلوم الخبيرة في شؤون الإرهاب بجامعة "جورجيا" الأميركية.
وتستطرد بلوم بهذا الصدد لتشرح مراحل التجنيد في التنظيم والتي تبدأ أولاً بالبحث عن الكم والأعداد الكبيرة من المقاتلين ومن ثم تنتقل للبحث عن النوعية والجودة أو بالأحرى "استكشاف المواهب".
رفع وتيرة التجنيد
ولعل اعتداءات باريس تهدف إلى رفع وتيرة التجنيد في صفوف "داعش" والتي شهدت انخفاضاً بعدما بلغت أوجها العام الماضي.
وتضيف بلوم إن احتمال تصاعد مشاعر معاداة الإسلام نتيجة الأحداث قد يدفع بعض مسلمي فرنسا إلى الانزواء و التطرف والانخراط في صفوف داعش وتبني أفكاره القائمة على "صراع الحضارات" .
ويضيف ماثيو هينمان رئيس مركز "جين" لدراسات الإرهاب والتمرد أن "داعش" كان على دراية بأن حادثتي باريس والطائرة الروسية ستزيدان من شراسة العمليات العسكرية ضده لأن هذا بالضبط ما ترمي إليه المجموعة ذات النزعات الانتحارية.
ففي بحث أعدته بلوم عن أسباب تفضيل خلايا مقاتلي "داعش" في أوروبا لسيناريوهات الأحزمة الناسفة والعمليات الانتحارية على الدوام وما إذا كانت تلك علامة بأس وشدة أم علامة ضعف وانهيار، خلصت بلوم إلى أن تلك المجموعات لا تبحث إلا عن شد الانتباه إليها وتسليط الأضواء على فروعها.
فالعمليات التي تتطلب جرأة الانتحار هي بمثابة وسام تميز واستحقاق على صدورهم يميزهم عن باقي الآلاف من المجندين العاديين في داعش.
وتستدل بلوم على ذلك بالمقارنة مع تنظيم القاعدة وعملياته حيث أقدمت فروع له على الابتكار والتفنن والتفاني بتقديم أرواحهم في عمليات انتحارية لم يقم بها مقاتلو قلب التنظيم أنفسهم.
تداعيات الخسائر
لكن بلوم رأت أيضاً أدلة تاريخية على أن العمليات الانتحارية قد تكون مجرد قناع ظاهره القوة والبطش لكنه يخفي وراءه ضعفاً خفياً.
فـ"داعش" فعلاً يعاني من الخسائر التي تكبدها في سوريا والعراق، ولعل أكبر هزائمه كانت في "كوباني" (عين العرب) التي سقط فيها وحدها ألفا مقاتل من التنظيم وأثرت على معدلات التجنيد حسب اعترافات أحد المنشقين عن داعش والذي صرح لموقع ديلي بيست أن معدل المجندين هوى أرضاً من 3 آلاف مقاتل أجنبي يومياً إلى 50 أو 60 فقط.
وإضافة إلى خسائر "كوباني" و"بيجي" و"كويرس" و"سنجار"، فقد تلقى التنظيم ضربات في مقتل عندما اغتالت القوات الأميركية قائدين كبيرين ورمزين من رموز "داعش" هما محمد إمزاوي المعروف بـ"الجهادي جون" ووسام نجم عبد زيد الزبيدي الملقب بـ"أبي نبيل" قائد داعش في ليبيا.
خسائر "داعش" المتوالية أثرت في ميزانيته كذلك وقدرته على دفع رواتب مقاتليه.
لكن خسائر التنظيم على أرضه وبين صفوفه لا تعني أبداً انحسار خطره.
فالتنظيم مازال يضرب في بيروت وأنقرة والسعودية، كما يشير كلينت وانس الموظف السابق في صفوف المشاة بالجيش الأميركي وعميل الإف بي آي، إلى أن "حركة الشباب" في الصومال كانت قد انتهجت نهجاً مماثلاً من قبل.
فبعدما خسرت الحركة السيطرة على المدن والبلدات التي كانت تحت سيطرتها تحول أسلوبها القتالي من حرب تقليدية إلى هجمات إرهابية في مناطق وأهداف حساسة.
وبذلك يختم واتس كلامه بالقول "إن خسرت مجموعة متطرفة الهيمنة على أراض كانت تحت سيطرتها فسيحفزها ذلك وبقوة على اللجوء إلى العمليات الإرهابية من أجل الحصول على أقصى وأكبر النتائج بأقل تكلفة."