لا يمكن لشخص واحد أو لمجموعة واحدة، مهما بلغت قدراتها، أن تصف رُشتة للخروج من المأزق الحرج الذي تمر به بلادنا.
لكن البحث عن تصور عام لمواجهة الخطر هو أمر ممكن أن يجتهد بشأنه الجميع.
ولا يُمكن مواجهة الخطر إلا بعد استقصاء احتمالات مآلاته، بعيداً عن التصورات القائمة على أساس من التفاؤل أو التشاؤم.
فإذا بدأنا باحتمال نجاح خطة السلطة القائمة – إن كان لديها أية خطة – بأن يأتي الانفراج من خلال السياسات الحالية للتضييق على المواطنين، فسنكتشف سريعاً استحالته لسبب منطقي وبسيط، وهو أن الأزمة – بسبب من أدائها – بلغت مستوى لا يمكن لنفس السلطة أو لسلطة لها نفس العقلية أن تواجهها أو أن تسيطر على آثارها.
فمن ناحية، بددت هذه السلطة كل الاحتياطات التي تسمح بالعودة إليها وقت الشدة لإعادة ترميم الأوضاع الاقتصادية.
والاحتياطات المقصودة تشمل الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي، الذي أصبح بالسالب بالحسابات الجدية لا تلك الهزلية التي تروج لها السلطة.
وكذلك تشمل وفورات وإيداعات المواطنين في البنوك، التي جرى استنزافها بعمليات طباعة النقد على المكشوف وطرح سندات الخزانة بأرقام فلكية تتراوح بين 6 و10 مليارات كل شهرين، وسياسة التلاعب بسعر الدولار قبل وبعد تعويمه.
كما تشمل أيضاً تبديد الاحتياطي المؤسسي الذي جرى السحب منه دون رقابة، سواء أرصدة الصناديق الخاصة التي لا حصر لها، لكن المؤكد أنها أمست خاوية، أو الصناديق الاستثمارية المتنوعة وأموال التأمين والمعاشات، حتى وصل الأمر لعرض مرافق الدولة للبيع، وهو أمر خطير لم يحدث في تاريخ الدولة المصرية.
كذلك يشمل الاحتياطي المُبدد مصادر التمويل بالمنح أو بالاقتراض بشروط ميسرة دون تكلفة تبعية، وتتمثل أساساً في الدول العربية الغنية والمؤسسات المالية كالبنك الإسلامي للتنمية والعربية أو حتى الإفريقية، فالتلاعب باعتبارات الثقة في الدولة المصرية أدى لفقدانها المصداقية لدى داعميها التقليديين.
ومن ناحية ثانية، فقدت السلطة كل أساس واقعي لتجعل من نفسها حكومة إنقاذ، فالإنقاذ – خصوصاً في حالة تبديد كل الاحتياطات كما أشرنا – يحتاج لأن يلتئم كل أصحاب الدار لمواجهة ما يهدد بيتهم بالانهيار والزوال، ولا يغيب عن عاقل أن السلطة لا هي قادرة على الجلوس مع غيرها، ولا يمكن لغيرها أن يجلس إليها، بسبب رصيدها المخزي من تصفيات واعتقالات وإغلاق للأفق العام السياسي والمدني والتلاعب بالدستور، وإقصاء من عارضها ومخادعة من شاركها.
فكما فقدت هذه السلطة رصيدها النقدي، فقدت رصيدها السياسي، بما لا يسمح لها بأن تكون طرفاً في أي عملية إنقاذ.
ولو انتقلنا لسيناريو العلاج بعد الرحيل الطوعي للسلطة، فسنكتشف أنه أيضاً أصبح مستبعداً.
فالأصل أن فشل أي سلطة ليس نهاية العالم طالما توافرت آليات لتغييرها؛ إذ يمكن لمن يحل محلها أن يعيد ترتيب الأوضاع بما يسمح بتحقق توافق وطني قادر على مواجهة الأزمة، باعتبار أن السلطة الجديدة غير مسؤولة عن عمليات الاستعداء والعداء التي مارستها السلطة الراحلة.
لكن السؤال هو: كم شخصاً يتوقع أن يغادر هذه السلطة بأي طريق من طرق الرحيل عدا الثورة؟
لم تقُم السلطة بإغلاق الأفق السياسي لمجرد الترف؛ بل كان مقدمة لإخلاء الساحة من كل بديل، ولتضمن استمرارها للأبد، وهي ستفعل كل شيء يقتضي ذلك، والحديث عن التنمية في 2063، أي بعد جيل كامل تقريباً، يرسل رسالة بأن على الجميع ألا يتوقع منها سوى مزيد من الكوارث.
بل إن الأمل المشروع الذي يحمله البعض للتغيير عبر الانتخابات، بحيث تصبح مرحلة الترشح والحملة الانتخابية فرصة للعودة السياسية، هو أمل مقضي عليه بالفشل.
فالسلطة القائمة أغلقت ملف الانتخابات مبكراً، عن طريق تزوير انتخابات مجلس النواب، الذي أصبح أداة طيعة بيدها تسمح لها إذا ما شعرت بالخطر في حال إجراء انتخابات رئاسية أن تسعى لتأجيلها أو لإلغائها كلية، مستغلة كل ما تحت يدها من آليات، بما فيها التهديد بمخاطر الإرهاب، إلى تعديل الدستور.
وبالنتيجة، لن يبقى أمامنا سوى سيناريو استمرار الفشل وتنامي الأزمة ككرة الثلج المتدحرجة، ما لم تتوافر مكابح قادرة على وقفها قبل أن تدهس البلاد طولاً وعرضاً.
لا يمكن مواجهة تلك السيناريوهات التي تحمل جميعها مخاطر على وجودنا كدولة وشعب، بمجرد الأمل في وقوع انقلاب جديد أو انشقاق واسع في المؤسسة العسكرية؛ لأن ذلك بذاته يحمل نفس مخاطر بقاء السلطة القائمة، التي رغبت منذ اليوم الأول في قتل روح الأمل لدى شعبنا بأن يكون هو من يفرض التغيير، وعملت على بناء ركام من العداء بين الشعب ومؤسسته العسكرية.
حالة درامية لم تشهدها مصر منذ التأسيس الأول في 1807، مما يستدعي من الجميع التفكير في سيناريو مختلف للإنقاذ.
فبعد ثلاث سنوات من عمر هذه السلطة، لم يعد الأمر يتوقف عند مجرد إزاحتها بعد أن نشبت أظافرها بجسد الدولة ودمرت كل أدوات الإنقاذ عمداً؛ لتجعل الفوضى بديلاً وحيداً لرحيلها.
ومن ثَم فعلى من يتطلع للإنقاذ أن يتبنى تصوراً شاملاً لكيفية فرض رحيلها مع تجنب الفوضى، وإعادة إصلاح ما خربته عمداً.
المكاشفة تقتضي الإقرار بأننا أمام تحدٍّ غير مسبوق يقتضي منا امتلاك مشروع وطني للتأسيس الثاني للدولة المصرية، لكنه هذه المرة أكثر وعياً من التأسيس الأول، لا يترك عملية البناء لقائد العسكر كمحمد علي باشا، مع الفارق الشاسع بينه وبين الحاليين، ولا يُقدم على عملية التأسيس دون رؤية وطنية ومشروع كامل يجعل الشعب مالكاً لإرادته ومن السلطة آلية للتقدم نحو الازدهار، ومن استعادة الشخصية الوطنية وبناء مكانة تليق بمصر وتحقيق الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية أهدافاً لا مساومة فيها.
لو رغبنا في وضع إطار عام لهذا التأسيس الثاني، فسنجد أنفسنا أمام مقتضيات مُلحة:
أولاً: إعادة ترميم الجماعية الوطنية المصرية وضمّ أطرافها وتجاوز مرارات الماضي، فهي التي ستقود عملية التأسيس الثاني، ولا يمكنها ذلك إن بقيت في حال التشرذم والتنابز الحالي.
ثانياً: التفاهم على وثيقة وطنية تكون أساساً لهذا التأسيس الثاني، وتضع إطاراً للتوافق والاختلاف دون أن يضر ذلك لا بترابط الجماعة الوطنية أو بتلاحم الشعب أو تماسك الدولة.
ثالثاً: التحدث بصوت واحد حول ضرورة رحيل الاستبداد ورفض التخيير بينه أو الفوضى، وهو ما سيعني توافر قدر معقول من التنسيق بين أطراف الجماعة الوطنية وبناء آلية للتواصل الإعلامي وللخطاب السياسي، تقفز على محاولات التفتيت والتهميش.
رابعاً: أن تكون أدوات التأسيس مستندة إلى ما يملكه الشعب من طاقات دون توقع أي مساندة إقليمية أو دولية.
خامساً: تبني الوسائل السلمية في مرحلة التغيير لتنظيف المسرح من الطغيان، وعلى رأس تلك الوسائل آليات العصيان المدني، الذي سيتعاظم أثره عندما يرى الشعب اصطفاف طليعته، وسيكون عندها مستعداً للاستجابة لكل دعوة تعبر عن مطالب واضحة وتمثل مشتركات بين الجميع.
في مواجهة معادلة الاصطفاف والعصيان المدني، ستفقد السلطة قدرتها على الخداع والمناورة، وستنهار معادلتها القائمة على أن القبول بها خير من الرضا بالفوضى.
سادساً: ستكون مرحلة البناء أكثر سلاسة طالما استندت إلى مشروع وطني جامع لا يسمح بتسرب روح الانتقام إليه؛ إذ تمتلك مصر كل الإمكانات والمؤهلات اللازمة لعملية تحول سريعة إلى حالة حضارية ونموذج إنساني مبدع.
وإجمالاً، أمام سيناريوهات بقاء السلطة الذي يضع كل الشعب وكل الدولة في خطر هائل، أو جعل بديلها هو الفوضى، لا نملك بديلاً عن بناء خيار وطني من مرحلتين:
الأولى: مرحلة تنظيف المسرح من الطغيان، بوسائل سلمية تحفظ الدولة وتحمي الشعب من بديل الفوضى.
الثانية: بناء النموذج الحضاري والإنساني الذي نحلم به على أساس من مشتركاتنا الكثيرة، وباستنهاض طاقة شعب بنّاء بطبيعته.