الصورة "المهتزّة" التي تبعث بها الدبلوماسية الفرنسية، وتراجع صلابة السياسة الأمنية لباريس، إضافة إلى قسم مهمّش من الأقلية المهاجرة على أراضيها.. تلك هي الثلاثية التي تجعل من فرنسا الهدف المفضل لإرهابيي "داعش"، بحسب قراءات متفرّقة لعدد من الخبراء الفرنسيين والعرب.
يسري الدالي، ضابط تونسي سابق وخبير مستقلّ في الشؤون الأمنية الدولية، قال للأناضول، إنّ الصورة التي تمرّرها الدبلوماسية الفرنسية، خلال السنوات الأخيرة، منحت انطباعاً بتوجّهها خارجياً نحو التدخّل العسكري، سواء كان ذلك بطريقة مباشرة عبر حضورها العسكري في شكل بعثات في كلّ من مالي أو إفريقيا الوسطى على سبيل المثال، أو بصفة مقنّعة أو غير مباشرة في مستعمراتها السابقة، غير أنّ النتيجة تظلّ واحدة في الحالتين، والانطباع ذاته يطغى على مواقف سلبية لسكان تلك المناطق إزاء التدخل الفرنسي.
ساركوزي والفوضى الليبية
اهتزاز تجلّى بشكل واضح، بحسب الخبير التونسي، في عهد الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، والذي تمتدّ إليه أصابع الاتّهام بشأن مسؤوليته في الفوضى التي تغرق فيها ليبيا إلى اليوم. حيثيات تبرّر الاستياء الكامن في بعض النفوس حيال باريس، وهو ما تعمل المجموعات المتشدّدة على توظيفه واستثماره عند تحضير وتنفيذ عملياتها وتجنيد منفذين لها.
الجمعة الماضي أسفرت 7 عمليات إرهابية متزامنة استهدفت العاصمة الفرنسية باريس، عن سقوط 129 قتيلاً وإصابة المئات الآخرين بجروح، بحسب الحصيلة الرسمية. وخلال شهر يناير/كانون الثاني الماضي خلّف الهجوم الدامي وسط باريس على مقر الصحيفة الأسبوعية الساخرة "شارلي إبدو"، 12 قتيلاً وأكثر من 20 جريحاً، أعقبته عملية مطاردة ثم احتجاز الرهائن وقتل 4 منهم في محل لبيع الأطعمة الخاصة باليهود.
هجمات أطلقت صفارة الإنذار في فرنسا، وتأتي كردّ على إعلان الحرب ضدّ المتشدّدين من قبل القادة الفرنسيين. حماس منبثق عن قوة الضربة التي تلقتها باريس جراء الهجمات التي استهدفتها، غير أن ذلك لم يستثن وجود بعض المسؤولين الفرنسيين ممن أكّدوا أنّ "خوض الحرب ضدّ الإرهاب" لن يحلّ – بعكس التوقعات – وحده المعضلة، بحسب رئيس وزراء فرنسا الأسبق دومينيك دو فيلبان".
دو فيلبان الذي تقلّد في 2003، أي أثناء غزو العراق، مهام وزارة خارجية بلاده، هو صاحب الخطاب الشهير الذي ألقاه أمام مجلس الأمن للأمم المتّحدة، معرباً، حينذاك، عن رفض فرنسا خوض حرب جديدة في العراق، أضاف في ذات الصدد قائلاً: "نحن نغذّي مشاعر الحقد والدمار، ونمضي (بذلك) على خطى الأميركان الذين يبحثون – كما هو الحال دائماً – عن عدوّ لهم عبر الكرة الأرضية، والمنخرطين ضمن مسار الخلاص الشامل".
فيلبان أشار، السبت الماضي، متحدّثاً في أحد البلاتوهات الحوارية على قناة "فرانس 3" الحكومية، إلى أن ذلك "ليس دورنا نحن الفرنسيين، وليس من مهامنا. نحن صنّاع سلام، وباحثون عن الحوار، نحن وسطاء".
تدخل في سوريا والعراق
موقف لا يختلف في عمقه عن قراءة الأستاذ المختص في الجيوسياسية بـ"معهد العلاقات الدولية في باريس، الفرنسي ميشيل غالي، الذي رأى في تصريح للاناضول أن "السياسة الخارجية لـ(الرئيس الفرنسي فرانسوا) هولاند حيال كلّ من سوريا والعراق توصف بالتدخّل العسكري، بل إن جزءاً من المسلمين يعتبرونها حرباً (ضدّهم)".
وعلاوة على ذلك، فإنّ هذا "النشاط الدبلوماسي المفرط فيه"، يأتي في وقت تشهد فيه البلاد حالة من "الانقسام الاجتماعي"، وفقاً ليسري الدالي، الذي عادة ما يكون على حساب الأقلية المسلمة المتواجدة في البلاد، والتي يعيش جزء من أفرادها "مهمشين" في الأحياء الفقيرة، مضيفاً أنه "حينما نشاهد تسجيلات الفيديو التابعة لداعش فإنها غالباً ما تتضمّن تهديدات موجهة لفرنسا، ودعوة إلى انتفاضة السكان المسلمين المقيمين في هذا البلد، الذين تتجاوز أعدادهم 6 ملايين نسمة"، وفقاً لأحدث التقديرات.
فـ"هؤلاء الإرهابيون"، يتابع الخبير الأمني التونسي، "الذين هم، في واقع الأمر، وفي معظمهم، مجموعات من المنحرفين توجّهوا نحو التطرّف، يعتقدون بأن الكثير من المسلمين المهمّشين يشكّلون احتياطياً جهادياً محتملاً لن يتأخر في الانضمام إلى معسكرهم. وهكذا، فإنهم يحاولون، عبر تكثيف هجماتهم، تشجيع هؤلاء المسلمين، من خلال فرض أنفسهم كفاعل قادر على توجيه ضربة مثيرة للإعجاب".
عملية إغواء
عملية "إغواء" تلقى تأثيرها وطريقها نحو الهدف، يقول الخبير التونسي، خصوصاً في ظل الإخلالات التي تنخر النظام الأمني الفرنسي، وهذا ما يفسّره دخول كميات من السلاح إلى الأراضي الفرنسية دون أن تتمكن الأجهزة المختصة من احتجازها، وحدوث 7 هجمات متزامنة، وأن يكون معظم الإرهابيين لهم ملفات معروفة لدى السلطات الفرنسية.
مارك تريفيديك، القاضي بمحكمة النقض بباريس، في قسم مكافحة الإرهاب، ذهب بدوره في الاتجاه نفسه، حيث لفت، في حوار تلفزيوني بقناة "فرانس 2" الحكومية، إلى أن "رجلاً جاء إلى مكتبي، منتصف شهر أغسطس/آب الماضي، وقال إن (داعش) طلبت منه تنفيذ هجوم على حفل لموسيقى الروك".
ورداً على سؤال عما إذا كانت فرنسا قد اتخذت التدابير اللازمة من حيث المراقبة والأمن، أجاب ترفيديك بأنه "بعد النزاع الأول في العراق لاحظنا الارتفاع الصاروخي للدعاية الجهادية والتطرف في جميع أنحاء البلاد (فرنسا)"، مضيفاً أنه "لمدة 10 أعوام لم يتم إقرار أي إجراءات ميدانية، سواء كان ذلك في مراكز الإيقاف أو خارجها، والأمر سيّان بالنسبة للمواقع الإلكترونية على الشبكة العنكبوتية التي تدخل إلى جميع البيوت".
وإلى ما تقدّم من هنّات، يضاف الموقع الجغرافي لفرنسا، والذي يجعل الدخول إليها سهلاً، على عكس المملكة المتحدة على سبيل المثال، بما أنها الأقرب إلى منطقة شمال إفريقيا، والأكثر يسراً من الناحية الجغرافية"، وهذا ما يجعلها مستهدفة خلافاً لبريطانيا المعزولة جغرافياً نوعاً ما من خلال البحار التي تحيط بها، وهو ما يجعلها بمنأى نسبياً عن مثل هذه الأمور".
رياح من كل الجهات
وبالنسبة لدو فيلبان، فإنّ "فرنسا معرّضة لهبوب الرياح من كل الجهات.. من المغرب (العربي) والشرق الأوسط، وهذا ما يجعلها في موقع ضعف، ويجعل بالتالي مقاربتها الأمنية عاجزة عن حل المعضلة وحدها.
وختم بالقول: "كنت أود القول إننا جاهزون، وإننا لا نخشى شيئاً، لكن هذا غير صحيح، لأننا نحن الفرنسيين، مجتمع ديمقراطي لم ينخرط في المسار الأمني (كما هو الحال) بالنسبة للمجتمع الأميركي، حيث الجاليات الأجنبية الأميركية تحت رقابة مشددة، ولذلك فإن المخاطر المترتبة عنها أقل من تلك التي تواجهنا.. إنه الطريق نفسه الذي سلكه المجتمع الإسرائيلي، إنه نهج السياسة الأمنية الصارمة فقط، وهذا ليس ما عليه الوضع بالنسبة لفرنسا".