إن تخبط "أردوغان" وسياسته يميناً ويساراً بعد فشل محاولة الانقلاب ليس واضحاً وجلياً فقط؛ بل هو في تصاعد أهوج ومتسارع أيضاً؛ إذ لا يمضي يوم حتى يخرج لنا الرئيس التركي -على غير عهدنا به- بهجوم قوي اللهجة على بلد أو تنظيم أو تحالف، أو اتهام جديد لشخص أو مؤسسة أو غيرها، أو وعيد بعقاب قاسٍ ينتظر كل مَن شارك أو اشتبه بأنه شارك أو خطط للانقلاب؛ ليبدو بذلك وكأن الرجل يعادي العالم بأسره، وليس الفئة الضالة التي تآمرت عليه فقط، أو كأن الفئة الضالة هي العالم بأسره؛ ليفتح بذلك على نفسه وعلى تركيا أبواباً موصدة، أو كانت تبدو موصدة، أو تقتضي الحكمة أن يجعلها كذلك، ولو في الوقت الراهن والحالي فقط.
فليس من العقل أن يفتح أحد على نفسه جميع جبهات الحرب في وقت واحد وزمن واحد، مهما كانت قوة الأسباب التي دفعته لهذا، لا لسبب إلا لكونه الخاسر الأكبر والأول في هذه الحرب، فالحبال عندما تتشابك وتتعقد تحتاج إلى حكيم يحلها بهدوء، وليس إلى أهوج يقصها ويقطعها على عَجَل، فعامل الوقت في أمر كهذا ليس هو المهم، لكن المهم هو الخروج من المأزق بأقل قدر من الخسائر، وإن استغرق الأمر وقتاً أطول، لكن -وللأسف- قدر كبير من سياسة "أردوغان" بعد محاولة الانقلاب تنتهج منهج القص والقطع السريع، وكأنه في سباق مع الزمن؛ للقضاء على كل من سوَّلت له نفسه التآمر عليه وعلى تركيا؛ لذا أخفق في حصوله على نتيجة أفضل، وهذا ما يريده خصومه تحديداً، ألا وهو محاولة إفشاله سياسياً في إدارة أزمة ما بعد الانقلاب، بعد أن فشلوا في إسقاطه عسكرياً، على أمل أن "من لم يمُت بالسيف مات بغيره"، منتهزين حالة الغضب الشديد المسيطرة على "أردوغان"، على أمل أن يجنوا من وراء غضبه ما لم يجنوا من وراء الانقلاب.
لقد انتهج الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان"، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عليه، سياسة الاعتقالات التي طالت أهم وأكبر مؤسسات الدولة، سواء العسكرية أو التعليمية أو القضائية أو المدنية، حتى وصلت أعداد المعتقلين من الشعب التركي إلى رقم يكاد لا يصدق؛ ليخرج "أردوغان" بعد ذلك مبرراً هذا بأنه إجراء احترازي طبيعي، لإحباط أي محاوله انقلابية قادمة، وأن من حق تركيا حماية شعبها وأراضيها من خطر المؤامرات الداخلية والخارجية المتربصين بها، وأن حملة الاعتقالات تلك ليست وجهاً مغايراً للديمقراطية التي تنتهجها تركيا؛ بل هي إجراء لا بد منه لكسر شوكة المتآمرين وإضعاف قواهم، بيد أن الأمر بدأ يتجاوز المعقول إلى غير المعقول، فحالة الطوارئ التي أعلنتها تركيا لأشهر قادمة، وربما تمتد إلى سنة أو ما يزيد على الأغلب، لا تدل على أن الشأن التركي سيعود على ما كان عليه، بل سيتحول إلى عهد جديد تبدو بشائره سيئة جداً على تركيا؛ ليحطم "أردوغان" بشماله ما بناه بيمينه سنين طويلة من اقتصاد قوي، وسياسة متزنة، وقوة عسكرية، وتأييد شعبي كبير.
أما عن الاقتصاد التركي القوي، فقد أعلن وزير التجارة التركي أن حجم الخسارة التي تكبدتها تركيا في غضون الأسابيع القليلة من محاولة الانقلاب وصلت إلى 90 مليار يورو، وهذا ليس بقليل أبداً، هذا عوضاً عن تدهور قطاع السياحة وإلغاء معظم الرحلات السياحية إلى تركيا في الفترة المقبلة، وبالرغم من أن الرئيس التركي والسلطات التركية تلقي اللوم كله على المتآمرين عليها والداعمين لهم مثل أميركا وأوروبا التي تكتب على مطاراتها مخاطبة شعبها عبارة "لا تسافروا إلى تركيا"، فإن الحق يقال إن سياسة "أردوغان" لعبت الدور الأكبر والأهم في هذا العجز الاقتصادي؛ إذ لا يعقل أن تطلب من العالم زيارة بلادك والاستثمار فيها وأنت تفرض حالة طوارئ إلى أجل غير معلوم، وليس من المنطق أيضاً أن تنتقد غيرك ممن يتصيدون أخطاءك عندما يمنعون شعوبهم من السفر إلى تركيا، بينما تعترف بلسانك بأن حملة الاعتقالات مستمرة مخافة وقوع انقلاب آخر جديد، بينما كان الأجدى بك أن تسد الطريق على كل متآمر، وتعلن تعافي بلادك تماماً من كل ما شابها، وعودتها سريعاً إلى ما كانت عليه قبل محاولة الانقلاب.
أما السياسة التركية الخارجية فقد أصابها عور في كثير من جوانبها، فمن المعلوم على سبيل المثال أن العلاقات التركية – الأوروبية هي علاقات متوترة يسودها الشد والجذب منذ زمن طويل، فسياسة التعالي التي يتبعها الاتحاد الأوروبي تجاه تركيا ورفضه الموافقة على انضمامها إليه رغم حجم التنازلات التي قدمتها تركيا لذلك، ورغم المكاسب الاقتصادية والسياسية التي سيجنيها الاتحاد في حال انضمام دولة قوية اقتصادياً وسياسياً كتركيا إليه، أجبر الأخيرة على اتباع سياسة الضغط والاستفزاز على الاتحاد الأوروبي من حين إلى آخر، تارة بورقة تدفق اللاجئين الى أوروبا عبر الأراضي التركية، وتارة في الملف السوري والدور المهم الذي تلعبه تركيا في مواجهة الجماعات الإرهابية، كمحاولة منها لإجبار دول أوروبا على قبول عضويتها في الاتحاد الأوروبي، بيد أن المصالح هي صاحبة اليد العليا في السياسة وفي العلاقات الدولية، والمصالح التركية – الأوروبية المتبادلة لا تعد ولا تحصى ولا يمكن الفصل بينهما، كان كلا الطرفين يتبع سياسة "شعرة معاوية" التي لا تنقطع مع الطرف الآخر ولو مجبراً، حفاظاً على مصالحه التي لا يستهان بها معه، لكن سرعان ما اختلفت هذه السياسة بعد فشل محاولة الانقلاب في تركيا؛ حيث أصبحت التصريحات السياسية والمواقف المتبادلة كالصواريخ الموجهة والقنابل المنفجرة بعد أن كانت موقوته، والتي من شأنها قطع العلاقات السياسية والدبلوماسية بينهما، كما صرح الرئيس التركي في خطاب سابق له.
وهذا "من وجهة نظري" خطأ جسيم وقع به" أردوغان" سواء عن قصد أو عن غيره، ليس لأن أوروبا لا تستحق كل هذا الهجوم الذي شنه الأخير عليها! أبداً، فأوروبا لا تترك طريقاً فيه عداء لتركيا إلا وسلكته، ولا فرصة لتشويه الرئيس التركي والطعن في سياسته إلا وانتهزتها، ولكن لسببين لا يقل أحدهما أهمية عن الآخر؛ الأول هو أن تركيا هي المتضرر الأكبر من قطع العلاقة مع أوروبا، فإذا اعتبرنا أن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي سيجلب حتماً الفائدة للأخير، كون تركيا دولة صاحبة ثقل اقتصادي وسياسي في المنطقة والعالم، ووجودها ضمن دول الاتحاد سيضيف إليه الشيء الكثير، فلا بد ألا ننسى أيضاً أن الفائدة التي ستعود على تركيا نفسها هي أعظم وأكبر، وإلا لما ظلت واقفة على أبواب أوروبا تستجدي الدخول إليه قرابة النصف قرن، كما قال الرئيس التركي.
والثاني هو أن الدول الأوروبية نجحت في استدراج "أردوغان" إلى حيث تريد استدراجه، متبعة معه سياسة الاستفزاز؛ ليرد هو بسياسة التخبط والتصريحات غير الموزونة، مستغلة ثورة الغضب التي أعمت بصيرته؛ ليثبت للعالم (بيده لا بيد غيره) صدق كل الادعاءات والافتراءات التي تروجها الصحافة الغربية للعالم عنه، في الوقت الذي يحتم عليه تأجيل مثل هذه الخصومات والترهات، والالتفات إلى ما هو أهم وأنفع له ولبلاده، والتوجه نحو كسب تأييد دولي أكبر بدلاً من استدعاء العالم، وجماهيرية شعبية أوسع بعد التفاف شعبه والأحزاب المعارضة حوله في إفشال الانقلاب، والمحافظة على صورته كقائد منتخب انتصر للديمقراطية في بلاده، وليس كديكتاتور انتصر لنفسه وحزبه فقط، ويسعى جاهداً لتثبيت حكمه بالاعتقال وتكميم الأفواه وسحق المعارضة وإبادتها كما يروّج خصومه!
أما القوة العسكرية التركية المتمثلة في الجيش، فقد أصيبت في مقتل؛ إذ لا يعقل أن يتم اعتقال مئات من الرتب العسكرية رفيعة المنصب كالجنرالات والألوية، ولا يصاب الجيش بخلل في قواه، عوضاً عن عسكريين كثر تمت إقالتهم من وظائفهم، كل هذه التغييرات في الجيش والمؤسسة العسكرية تمت تحت مسمى "تطهير الجيش"؛ لضمان قتل أي محاولة انقلاب عسكرية قادمة، وكأن وأد الانقلابات في مهدها هو الضمان الوحيد لاستمرار الحكم إلى ما شاء الله، لكن "أردوغان" نسي أو تناسى أن الانقلاب عليه، وإن كان قد حدث على أيدي قادة منشقين عن الجيش، إلا أنه فشل أيضاً بأيدي قادة آخرين من الجيش، أي أن الجيش التركي لم يكن يحتاج لإزاحة المئات من كبار قادته فقط لأنهم لا ينتمون إلى حزب العدالة والتنمية، واستبدالهم بآخرين غيرهم ينتمون لهذا الحزب لا يعني بالضرورة أنه أصبح في مأمن من حدوث أي انقلاب عسكري جديد، إذن فقانون العقاب الجماعي ما هو إلا قنبلة موقوتة، لا يأمن صاحبها منها كما لا يأمن غيره منها.
إن أحداً لا ينكر الهجوم الكبير الذي يواجهه الرئيس التركي للحفاظ على بلاده وشعبه، ولا أحد يقلل من حجم الأزمة التي عصفت بتركيا وكادت تودي بها إلى غياهب الجب الذي لا انتشال منه، ولا أحد ينكر أيضاً عظم التآمر والتخطيط لإسقاط "أردوغان" ونظامه، وبالتالي حجم المسؤولية التي تنصب على رأس الرجل لمواجهة كل هذا وذاك، ولكن "على رسلك يا أردوغان"، فما هذه سياسة منتصر! لا هكذا يكون الحكيم، وما عهدناك إلا حكيماً ولا نريدك إلا منتصراً، فأول السقوط زلة، وزلة "أردوغان" بمائة ألف زلة؛ لذا تيقن جيداً من موطئ قدمك قبل أن تطأ، واحذر من هفوات لسانك قبل أن ينطق، حتى لا يأتي يوم لا ينفع فيه لا بكاء ولا عويل، وتصبح تركيا -لا قدر الله- على ما أمست عليه غيرها من بعض الدول العربية، وحاجتك لا تقف عند حزب التنمية والعدالة فقط، حتى تظن أنك في غنى عن سواهم بهم، فقد انتصرت على الانقلاب بغيرهم، وليس بهم فقط، والحكم لا ينتهي بالانقلابات فقط يا "أردوغان"، إنما قد ينتهي بأمور أخرى كثيرة أقل شأناً منه، ولا تكن كمن طرد الذئب فجلب الدب إلى كرمه.
ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.