أكثر نكتة كانت ولازالت تضحكني منذ أربع سنوات ونصف، على الرغم من أنها قديمة ومملة ومكررة، هي مطالبة نظام بشار الأسد بإجراء إصلاحات، والتي تطورت مع تقدّم الثوار وفقدان النظام سيطرته على الأراضي السورية لتسمى الحل السياسي، ومشاركة المعارضة التي يصنفها النظام وطنية في السلطة، وأكثر ما يضحكني في هذه النكتة البايخة أن من يتداولها يأخذها على محمل الجد ويصدقها، ويخترع لها السيناريوهات ويبني لها الديكورات ويضع لها تصورات الإخراج، وحتى أنه يطرح أسماءً للشخصيات المرشحة للدخول في الحكومة الأكثر خيالاً في العالم، ويبدلها حسب الموضة الدارجة للأسماء في كل مرحلة، لكن الأشد إضحاكاً من هؤلاء المعارضين النوفوريش هم الدول التي ترسل وزراء خارجيتها وتضيّع وقتها في إجراء المباحثات وعقد المؤتمرات لبناء وهم كبير كان اسمه الإصلاح قبل أن يسمى الحل السياسي.
منذ اللحظة الأولى لانطلاقة الثورة السورية في مارس 2011 أعلن نظام بشار الأسد موقفاً واضحاً للتعامل معها ومع مطالب السوريين، عبر شعارين لا يقبلان اللبس وليس فيهما غموض ولا يحتملان تفسيرات أخرى تخالف معناهما الظاهري وهما (الأسد أو نحرق البلد) و(الأسد أو لا أحد)، وخلال أربع سنوات ونصف لم يتزحزح نظام بشار الأسد شعرةً عن موقفه، واستخدم ترسانته العسكرية كلّها وترسانة وقوات حلفائه الإيرانيين وملحقاتهم من الميليشيات الشيعية العراقية واللبنانية والروس لتأكيد جدية شعاراته، وتطبيقها في كل المدن والمناطق السورية التي ثارت عليه وأعلنت العصيان على سلطته، ولم يدل أي من وجوهه في أي لحظة بتصريح يخالف هذين الشعارين.
والمساحة الوحيدة التي سمح فيها نظام بشار الأسد بالمفاوضة أو بتقديم تنازلات هي تلك التي لا تهدد وجوده ولا تغيّر من طبيعته وكيانه وتركيبته، فسلّم ما أعلن عنه من مخزون السلاح الكيميائي ليتقي فورة غضب دولية، وجلس في جنيف مع من يصنّفهم عملاء وجواسيس وإرهابيين ليضيّع الوقت ويظهر مرونته على التكيّف مع المطالب الدولية، لكنه في كل اللحظات التي أحنى رأسه فيها للعاصفة، أو حاول الإيحاء بذلك، لم يكف ولو للحظة عن القصف بالمدافع والدبابات والطائرات والصواريخ للمناطق الثائرة على سلطته، ولم يتوقف ثانية عن قتل السوريين.
طوال عمر نظام الأسد ومنذ أيام الأسد الأب كانت مشكلة الآخرين دولاً وأحزاباً وشخصيات أنهم يصدقونه في الوقت والمكان الذي يجب أن يكذّبونه فيهما، ويكذبونه في الوقت والمكان الذي يجب أن يصدقونه فيهما، فعندما يضع شعارات مثل )قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد) أو )الأسد أو نحرق البلد) أو (الأسد أو لا أحد) يتعاملون معها باستخفاف، ولا يصدقونها أو يأخذوها على محمل الجد، بالرغم من أنها تعكس في الحقيقة جوهر أهداف النظام، وتوضح الأسس الصلبة غير القابلة للمساومة التي قام عليها، وأنه جاء وفي ذهنه أن يبقى ويستمر، وأنه لا يفهم مصطلحات مثل المشاركة في السلطة أو تقاسمها، فكيف يكون الأمر حين يتم الحديث عن تداولها!؟
وعندما يتحدث عن الإصلاح والتطوير والمشاركة يصدقونه ويقفون معه، في الوقت الذي كان يجب عليهم أن يكذبونه فيهما، فالأسد الأب الذي زج بأحزاب كاملة في المعتقلات لعقد ونصف من الزمن من أجل بيان لا يقدم ولا يؤخر ولم يتجاوز عدد قرائه 500 شخص انتقد حكمه، والأسد الابن الذي نادى بالإصلاح والتحديث والتطوير لم يحتمل كلمتين عن الإصلاح قيلتا في منتدى صغير أمام جمهور لا يصل تعداده إلى 100 شخص، فساق من قالهما إلى السجون، لا يفهمان معنى المشاركة أو تقاسم السلطة أو تداولها، أو التعامل بندية أو الجلوس على طاولة حوار على قدم المساواة مع شخص أو أشخاص يحملون الجنسية السورية، فالسوريون في نظرهم مواطنون من الدرجة الثانية، وعبيد عليهم أن يسمعوا ويطيعوا، ويقبلوا ويوافقوا ولا يعترضوا، هكذا عاملوهم طوال 30 سنة من حكم الأسد الأب، واستمروا بمعاملتهم خلال سنوات حكم الابن، ولن يقبلوا بتغيير هذه الطريقة من شكل الحكم والسلطة، لأنهم يعرفون أنهم سواء باعتبارهم أقلية حاكمة أو بالنظر إليهم كسلطة مستبدة، أن أية مشاركة أو إجراءات ديمقراطية ستعني بداية الطريق لتنازلهم عن السلطة.
نظام بهذا الوضوح عمل طوال وجوده على تغيير طبيعة الأشياء لخدمة بقائه وضمان استمراريته فحوّل مجلس الشعب إلى مكان للتصفيق لقراراته بدلاً من مناقشتها، وجعل من النقابات مكاناً لإحكام سيطرته على منتسبيها، بدلاً من الدفاع عن حقوقهم، وغيّر من عقيدة الجيش فحوله إلى ميليشيات طائفية تدافع عن وجوده وتقتل وتقصف شعبها إن اختلف معه، وأنهى كل قوة سياسية يمكن أن تنافسه أو تشكل خطراً عليه، وخنق كل رأي يختلف معه، واستخدم السجون والاغتيالات لتصفية معارضيه..
نظام بهذا الوضوح هل يمكن أن يقبل أو يفكر حتى مجرد تفكير بحل سياسي يسمح بظهور أنداد أو منافسين له؟ وهل توجد قوة في الأرض تستطيع أن تجبره على تغيير أسلوبه والقبول بشركاء؟ وحتى لو افترضنا أنها وجدت فمثال إخراجه من لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005 لا يحتاج إلى كبير عناء لإثبات كيف يستطيع التكيّف مع أي وضع جديد والعودة بشكل أقوى مما كان عليه عندما كانت قواته تسيطر بشكل مباشر على لبنان.
في تسعينيات القرن الماضي قال حافظ الأسد جواباً على سؤال صحفي عما إذا كان يعد العدة لتوريث ابنه، وهو الذي كان يسابق الزمن في التحضير لتوريثه، وكانت كل سورية تستيقظ وتنام على صور وأخبار وإصلاحات والأمل المعقود على بشار الأسد باعتباره الرئيس القادم لسورية: إن سورية دولة ذات نظام جمهوري، وليس فيها توريث، وأنه لا يعد ابنه لتولي الرئاسة، وأن بشار الأسد لا يعمل للرئاسة، ولكن من حق بشار الأسد باعتباره مواطناً سورياً أن يترشح كغيره من المواطنين السوريين للرئاسة، وبعد مرور أقل من ثلاث سنوات على كلام الأسد الأب، وعند لحظة موته صدرت المراسيم بترفيع ابنه إلى رتبة فريق، وتعيينه قائداً عاماً للجيش والقوات المسلحة، وبموافقة ثلثي أعضاء مجلس الشعب تم تغيير سن الرئيس في الدستور ليناسب عمر بشار الأسد، وبعد شهر ونصف من وفاة والده حل بشار الأسد مكانه في كل المناصب التي كان يسيطر عليها.
بهذه الطريقة التي بناها حافظ الأسد كانت تدار الدولة ويستمر الحكم، وبنفس الطريقة التي تولى فيها بشار الأسد الحكم، وخرج من لبنان، من دون أن يفقد وصايته عليه، سيُدار أي حل سياسي فيما لو فُرض على بشار الأسد، ولن تمضي سنة حتى يعود الأسد الصغير أقوى مما كان عليه قبل بداية الثورة!
الجزء الأكثر إضحاكاً في موضوع الحل السياسي هو بورصة الأسماء التي يتم تداولها لتكون الواجهة المقابلة أو البديلة لبشار الأسد، وكلها من موظفيه الصغار ومحظييه وسماسرته وندماء غزواته الليلية من مناف طلاس إلى فاروق الشرع إلى عبدالله الدردي إلى رياض نعسان آغا وسواهم، وكأن مليون سوري قتل وأصيب وجرح واعتقل وأضعافهم هُجّر وشُرّد ودمرت حياته ليتم استبدال بشار الأسد بمناف طلاس!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.