عطش الروح

بدأت أسمع صوتاً بداخلي يقول لي، من أين أتى هؤلاء الناس بكل هذه القوة التي تسمح لهم بالفرح والضحك وتبادل الأحاديث والتخطيط لقضاء فسحة ما في يومٍ ما؟ كيف استطاع هؤلاء تناسي أكوام الهموم والمشاكل المكدسة على جنبات أكتافهم أو على الأقل تأجيل التفكير بها والاستمتاع بهذه الأمسية في حضن هذا المقهى المفعم برائحة الغربة؟ لا بدّ وأنه التمرد على الواقع بكل ما فيه من خيبات وآلام هو الذي دفعهم لسرقة لحظاتٍ يكونوا فيها هم أبطال الحدوتة، هكذا أجبت ذاك الصوت الداخلي، أو أنه حب الحياة.. نعم حب الحياة.. أو رغبة الروح في الهرب مع المعشوق!

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/06 الساعة 04:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/06 الساعة 04:54 بتوقيت غرينتش

المكان هو ذاك المقهى الذي لم يفطم بعد، والمتخفي وسط أحياء مدينة الإسكندرية وأبنيتها الشاهقة، التي تشعر وكأنها تريد البوح بسرٍ لكنها تمتنع عن ذلك لسببٍ ما، المقهى الذي اتخذه السوريون وطناً صغيراً لهم يلتمون فيه كل مساء كعائلةٍ واحدةٍ لمشاهدة مباراةٍ أوروبية، أو مشاركة طاولة الزهر مع أحدهم، صديقاً كان أو عابر طريق، أو تبادل الآراء والتحليلات السياسية، التي ما زال يكتنفها الخوف وبعض من التمتمات والأصوات الخافتة، لربما يكون لجدران الغربة المرتعشة آذانٌ أيضاً كما جدران الوطن..

كنت محاطاً بكوكبة من الأصدقاء، نتبادل أطراف الكلام المباح عن الحقد التاريخي الكروي بين الطليان والألمان، حتى تحولت الجلسة إلى استديو تحليلي كاستديوهات الــ"بي إن سبورت" لكن الفارق الوحيد بأنّ الاستديو الخاص بنا مشحون بدرجة حرارة عالية جداً لعدم وجود أي نوع من التكييف وبعض من الذباب الذي يحوم حولنا، وكأنه يشعر بالملل من حديثنا ذاك، وأصوات أبواق السيارات وهدير محركاتها المتعبة يزاحم صوت قرقرة الآراغيل وطنين صدى أصواتنا الذي يضيف على المقهى رشة حياة!

فجأةً ودون سابق إنذار قررت أن أتخذ من الصمت صديقاً لي، وبدأت أرفع خاصية السمع لدي إلى أقصى درجاتها وكأني أمتلك ريموت كونترول خفياً.. حاولت تعطيل كل حواسي الأخرى وأطلقت سمعي في كل مكان وكأنني تحولت إلى جهاز تسجيل لا حول له ولا قوة سوى الإصغاء عنوةً لكل ما يقال من حوله. وبدأت أهز برأسي بين الفينة والأخرى لأوحي لمن حولي بأنني أعيرهم سمعي وأصغي لما يقولون..

صوتٌ بعيدٌ لمزمار بائع "غزل البنات" يشاكس صوت الضجيج ويصل إليّ، وصوتٌ لقرقعة أقدام المارة الكثر الذين يمشون على عجل وكأنهم يسابقون زمانهم بحثاً عن خلاصٍ ما يقرع باب غشاء طبل أذني بعنف (نعم لأول مرة في حياتي أشعر وكأن وقع تلك الأقدام هي ليست لبشر بل لديناصورات أو كائنات عملاقة غزت أرضنا المنهكة) وصوتٌ لطفلٍ صغيرٍ يبكي بحرقة شديدة دون أن يأخذ استراحة محارب يتخلله هدير صوت أمه التي تنهره ببعض العبارات التي شكلت وما زالت تشكل جزءاً متأصلاً من مخزوننا الثقافي العربي القمعي يقتحم سمعي أيضاً.

حاولت جاهداً أن أفلتر كل تلك الأصوات المتصارعة فيما بينها لأصب جام سمعي على أحاديث الناس.. كانت تنتابني في تلك اللحظة رغبة عارمة للتطفل على تمتمات الناس، لا أعرف من أين أتتني هذه الرغبة، لكن كل ما أعرفه بأنني استجبت لها دون أي مقاومة تذكر، فالإنسان غالباً ما يكون عبداً لرغباته!

رجلٌ في الخمسينيات من عمره وربما أقل وربما أكثر بقليل وعلى الأغلب بأنه يدخن مذ أن قرر أن يرحل عن عالم الطفولة، هكذا حدثني صوته الخشن المبحوح المثقل بالنيكوتين والقطران وتعب الحياة.. كان يتحدث لمن يجلس معه عن مكالمته الخليوية الأخيرة التي أجراها مع ابنه المقيم في ألمانيا، والذي -ولله الحمد- حصل على الإقامة بعد طول عناء وانتظار.. كنت أشعر بحباله الصوتية ترقص طرباً وفرحاً وهي تنقل هذا الخبر، وكأن ابنه نال شهادةً عالية وعالية جداً أو تزوج وأنجب صبياً يحمل اسمه.. صمت قليلاً ثم تنهد وقال: "الحمد لله صبر ونال"، وقبل أن يكمل الكلمة الأخيرة قاطعه صوتٌ لرجلٍ ربما يكون من أبناء جيله لكنّ صوته أكثر نعومة وقال له: "ابنك مرضي يا أبو محمد وربك ما بيتركوا" ليردفها تباعاً بقوله: "صحي إيمت بدنا نعمللنا هيك شي مشوار عشي محل نغير جو"..

انفجارٌ لضحكةٍ وصل دويها إلى أذني، ربما لشابٍ في العشرينيات من عمره لأنّ حدتها لا زالت طازجة مفعمة بالحيوية. بدأت أستمع لبعض كلماته غير المفهومة وغير المكتملة في الكثير من الأحيان من شدة الضحك.. "لك سر هههههه"، هذه هي العبارة التي استطعت فك شيفرتها.. صوتٌ لشابٍ آخر ينهره بغضب ويطلب منه التوقف عن الضحك حتى يفهم ما يريد قوله.. أشعر بالشاب يدوس فرامله ليخفف من حدة الضحك ثم يقول: "لك سرقوا موبايل محمود وثيابه وقت كان بالبحر" ويتابع ضحكه الهستيري، حتى شعرت بأنّ هذا الشاب قد اشتاق للضحك وكأن زمناً طويلاً قد مضى عليه دون أن يتذوق طعمه أو حتى يرى ملامحه فلا بد من ذلك! لأن الموقف لا يتطلب كل هذا النوع من الضحك وبهذه الطريقة الثائرة.. نعم إنها الرغبة التي حدثتكم عنها منذ قليل، الرغبة في مقارعة الواقع والدوس عليه، فعندما تعطش الروح، تذبل الحواس وتدخل في غيبوبةٍ كمريض سكري ينتظر خلاصه في غرفة الإنعاش!

"نارة يا أحمد" بهذه العبارة انقطعت حكايتي مع ذاك الشاب الضحّاك، لأسمع بعدها صوت خرير الماء وقرقعة الكؤوس والفناجين التي تقوم بحمامها المعتاد لتمسح عن نفسها ما حمله لها يومها من تفل القهوة وبقايا فتات الشاي لتصبح بعدها بأتم جهوزيتها وأناقتها لتتبادل القبل مع الناس المتشوقين لقضاء أمسيتهم معها وطبع شفاههم على جنباتها بعد عناء يومٍ طويلٍ جديدٍ من أيام الغربة الرتيبة تلك.

بدأت أسمع صوتاً بداخلي يقول لي، من أين أتى هؤلاء الناس بكل هذه القوة التي تسمح لهم بالفرح والضحك وتبادل الأحاديث والتخطيط لقضاء فسحة ما في يومٍ ما؟ كيف استطاع هؤلاء تناسي أكوام الهموم والمشاكل المكدسة على جنبات أكتافهم أو على الأقل تأجيل التفكير بها والاستمتاع بهذه الأمسية في حضن هذا المقهى المفعم برائحة الغربة؟ لا بدّ وأنه التمرد على الواقع بكل ما فيه من خيبات وآلام هو الذي دفعهم لسرقة لحظاتٍ يكونوا فيها هم أبطال الحدوتة، هكذا أجبت ذاك الصوت الداخلي، أو أنه حب الحياة.. نعم حب الحياة.. أو رغبة الروح في الهرب مع المعشوق! لربما شعر هؤلاء بالتخمة من أخبار الموت القادم من هناك حيث غرسوا قلوبهم قبل الرحيل، فما كان منهم إلا أن قرروا الاستمتاع بهذه الأمسية الخجولة طالما أنهم لا يملكون القدرة على المقاومة وتغيير مجريات الأحداث والاستمتاع في مثل هذه المواقف غالباً ما يكون قراراً حكيماً، هكذا أردفت…

"بعيد عنك.. حياتي عذاب.. متبعدنيش بعيد عنك.." بهذه الكلمات صدح صوت أم كلثوم من التلفاز المهمل المثقل بالغبار عند زاوية المقهى، معلناً بذلك نهاية رحلتي مع الأصوات.. والتي أخذت أرددها وأنا في طريقي إلى البيت..

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد