الخط الفاصل بين الدبلوماسية والثوابت

يمكن اعتبار حياة الإنسان وعرضه ودينه هو الثابت الذي يمكن التمحور حوله وما دون ذلك يمكن المناورة فيه وبالقدر المطلوب لدفع الخطر والضرر!

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/02 الساعة 02:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/02 الساعة 02:07 بتوقيت غرينتش

تعودنا في السنين الأخيرة سماع الكثير عن الكلام الدبلوماسي والمواقف السياسية، وفي المقابل تكلم الكثير عن المبادئ والثوابت، ولعل الكثير منا أصبح يتساءل عن هذين المصطلحين، وشعر البعض بتخبط ولا يجد جواباً لهذه الحالة التي تنتابه.. من هنا كان لا بدَّ من طرق هذا الباب، ونحاول تلمس الطريق وسط هذا اللغط والحالة الضبابية التي تحيط بكثير من المواقف والآراء المبادئ والثوابت..

هي أمور لا يمكن التخلي عنها إلا تحت ظروف قاهرة تخرج عن حد الإرادة والقدرة على التحمل، وأوضح مثال على ذلك هو ما وقع في صدر الدعوة الإسلامية، فقد تعرض المسلمون لأشد العذاب من أجل العودة عن دينهم أو ذكر آلهة قريش بخير.

فكانت القدرة على التحمل تختلف من واحد لآخر ففي الوقت الذي صمد "بلال بن رباح" واستمر بترديد عبارة "أحدٌ أحدٌ.." رغم استمرار الضرب والتعذيب.. فقد وجدنا "عمار بن ياسر" لم يستطع تحمل شدة العذاب فاستجاب لطلب قريش وذكر آلهتم بخير.. ولما عاد للرسول -صلى الله عليه وسلم- جاء باكياً، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال له: كيف تجد قلبك؟ فكان الجواب أنه ما زال على إيمانه وحبه لله ورسوله.. فكان رد الرسول -صلى الله عليه وسلم-: إن عادوا فعد..

ومن الثوابت التي لا يمكن التنازل عنها هي الحفاظ على حياة الإنسان، وهي من القضايا التي لا يقبل فيها مبرر الإكراه للتنصل من المسؤولية.. حتى أن العلماء الذين قبلوا بتبرير الزنا تحت الإكراه لم يقبلوا ذلك في القتل على الإطلاق؛ لأنه اعتداء على حياة الآخرين، وبالتالي لا يمكن القبول بجريمة القتل وتبريرها وكَيْل المديح للقاتل تحت أي مبرر من أجل مكاسب اقتصادية أو للنجاة من عقوبات واقعة أو متوقعة على المسلم أو الجماعة المسلمة كما يحاول البعض فعله في الآونة الأخيرة.. حيث إن مديح إيران أو النظام السوري أو حزب الله، الذين يوغلون في دماء الشعب للسوري من أجل حفنة دولارات فإنه موقف يتناقض مع الثوابت التي تربى عليها الإسلاميون.. وقد يجادل بعضهم بالقول: أنت ترى حجم الحصار الذي يضرب على غزة ولا معين لها.. من هنا اضطررنا لذلك.

والحقيقة أننا بهذا المسلك نُشَرْعِنُ للقتلة ونعطيهم رخصة للقتل؛ فالكل يعلم أن شهادة حركة بوزن حماس لصالح إيران في هذه المرحلة الحرجة هو بمثابة شهادة حسن سلوك ومصداقية لهؤلاء القتلة، وبالتالي يجب أن لا نعطيهم هذه الرخصة بالقتل، وإلا نصبح شركاء لهم في الجريمة.

إن إيران وحزب الله فقدوا موقعهم وحظوتهم لدى الشارع الإسلامي عامة والسني بوجه خاص، وبالتالي هم بأمس الحاجة لهذه الشهادة بحسن الخلق.. وقد اتفق العلماء على أن العلماء لا يجوز لهم الأخذ بالرخصة أو بالتقية؛ لأن في ذلك تضليل للعامة والشاهد في ذلك قصة الإمام أحمد في مسألة خلق القرآن.. فقد آثر تحمل الضرب والتعذيب على أن يقر للمعتزلة برأيهم أن القرآن مخلوق.. وقد قيل له: يا إمام لمَ لا تقولها وتتخلص من العذاب؟ فرد الإمام: وكيف أفعل بهؤلاء الناس الذين ينتظرون مني كلمة؟!

وأما ما سيرد به البعض.. وماذا تسمي موقف تركيا من روسيا وإيران، حيث إنها ما زالت تحافظ على علاقات اقتصادية ودبلوماسية رغم معارضتها للقتل في سوريا؟ والجواب على ذلك: أن تركيا لأسباب سياسية وعسكرية وإستراتيجية -يطول الحديث عنها ويمكن تناولها في مقالة أخرى- آثرت الإبقاء على هذه العلاقات مع إعلانها رفضها وإدانتها لما يجري من قتل وتدمير على الأرض السورية بسبب التدخل الإيراني والروسي..

هذه هي المساحة الرمادية التي تلعب بها الدبلوماسية التركية في المرحلة الحالية من الأزمة السورية.. وأما ما يقوم به بعض قيادات حماس في اعتقادي خطأ فادح ومخالفة شرعية وخطيئة لا يمكن السكوت عليها لخصوصية وأهمية موقف حماس عند أكثر الناس فهو يحمل في طياته تضليلاً للناس والمفاهيم.

وفي اعتقادي لو أن من مدح موقف إيران وحزب الله ربط موقفه برفض التدخل في سوريا والدعوة لرص الصفوف في مواجهة العدو الصهيوني لكان الأمر مقبولاً ومستساغاً، أما أن يترك الموقف مطلقاً بدون ضوابط، فإنه موقف سيئ ومخزٍ ولا مبرر له مهما كانت قساوة الظروف واشتداد الحصار، فإن الدماء الفلسطينية ليست أغلى من الدماء السورية فدماؤهم متكافئة وغالية ولا يمكن المتاجرة بها مهما كلف الثمن.. والحد الأقصى الذي يمكن تفهمه هو التزام الصمت تجاه ما يجري للضرورة.. فالرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يمر بسمية أم عمار وزوجها ياسر وهما يعذبان ولم يكن يملك القوة آنذاك في مكة فلم يملك لهم سوى القول: صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة وهذا موقف يعبر عن الرفض وإن كان يدلل على ضعف الجماعة المسلمة في ذلك الحين..

إذن لدينا الخيار بين التزام موقف الرفض القلبي واللفظي كما هو موقف حماس من نظام الانقلاب في مصر في هذه المرحلة بعدما تبنت موقف الرفض اللفظي والامتناع عن الرفض الفعلي والتدخل المباشر.. وهو موقف تركيا من كلا النظامين السوري والمصري.. وهو يعبر عن فهم عميق وشامل لمتطلبات المرحلة الحرجة التي تمر بها الدولة أو الجماعة المسلمة.

وفي السياسة هناك الكثير مما يمكن فعله من خلال التلاعب بالألفاظ واختيار الألفاظ الدقيقة وأحيانا الغامضة التي يمكن التهرب من بعض دلالاتها كما هو مشهور في قرار مجلس الأمن 242 الذي طلب من إسرائيل الانسحاب من أراض عربية احتُلت عام 1967 ولم يقل الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة فاستعمال كلمة "أراضٍ عربية" أعطى إسرائيل مجالاً للمراوغة والتمسك بأنها لو انسحبت من أي مساحة من تلك التي احتلتها تكون قد نفذت قرار مجلس الأمن، ورغم أن هناك نصًّا للقرار باللغة الفرنسية ينص بالانسحاب باستعمال "الـ التعريف" في كلمة "أراضي"، إلا أن إسرائيل تمسكت بالنص الإنجليزي الذي لم يستعمل "الـ التعريف".. وهكذا هي مجالات المراوغة والتلاعب في السياسة..

ومن ذلك ما يتم الحديث عنه في الأرض، حيث إنه يمكن للدولة في ظرف ما أن تضطر للتنازل عن قطعة من أراضيها مقابل الحفاظ على كينونة الدولة من الخطر الداهم والمتوقع، كما وقع مع روسيا لحماية الثورة البلشفية حين وقعت على اتفاقية برست عام 1918 مع ألمانيا والنمسا وتنازلت بموجبها عن ليتوانيا وأكرانيا، وكما تنازلت العراق لإيران عن جزء من شط العرب وبعض الجزر أثناء فترة حكم الشاه.

وحين تغيرت البيئة السياسية والعسكرية بعد الثورة الإيرانية.. أقدمت العراق بقيادة صدام على إلغاء الاتفاقية وتقدمت القوات العراقية.. وحين سئل صدام حينها قال: يبلوها ويشربوها.. هذه توازنات السياسة الدولية فهي تعتمد بالدرجة الأولى على موازين القوى وليس الاتفاقيات والمواثيق الدولية.. من هنا يمكن للقيادة الفلسطينية إنْ رأت القبول بقرار 242 وإقامة الدولة على أرض الضفة وغزة لطبيعة الموازين الحالية للقوى والتي ترجح للجانب الصهيوني.. هذه هي المساحة التي يمكن للاعبين السياسيين أن يتحركوا فيها والشواهد كثيرة ولا يتسع المجال لذكرها.. في الختام يمكن اعتبار حياة الإنسان وعرضه ودينه هو الثابت الذي يمكن التمحور حوله وما دون ذلك يمكن المناورة فيه وبالقدر المطلوب لدفع الخطر والضرر!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد