أتكئ على نافذة الروح، ألثم شفاه الأبد، ينشطر الألم إلى شظايا تصيب ذاكرة الغد، أقف وحيداً في صحراء الحلم فلا أنت تجيبين ولا أنا أكفّ عن النداء، ويصير الأمس عناء لا يُطاق، وتتبعثر الحروف لتشكل لغةً جديدةً لا يمكن لأحد قراءتها إلا أنت.
أنادي أمي من على مدخل الباب هل الغذاء جاهز؟ اعتادت أن تطلب منّي أن أغيّر ملابسي أولاً وأغسل يديّ، كنت أفضل طبق المكرونة باللحم الذي تعده إلا أنها كانت تصرّ على طبق حساء الخضار من أجل معدة أبي المتعبة، تتناثر تفاصيل تلك المرحلة فتبدو كشتات يصعب الإمساك به، حتى مثلت أحداثها عبئاً لا يحتمل على الذاكرة فعمدت إلى التخلص منها.
هذه المرة حين ناديت كعادتي؟ لم يأتني صوتها كعادتها، تحب الحياة أحياناً أن تغير من رتابة ما اعتدناه وظننا أنه سيستمر إلى الأبد فتلجأ إلى المراوغة، وإلى كسر حدة الملل بحيل مختلفة، الموت والمرض أهم هذه الحيل.
طالعت وجوهاً كثيرة لم أعتَد على رؤيتها في منزلنا هذه اللحظة، خالتي، إحدى الجارات التي لا تزورنا أبداً، قريبة تشاجرت مع أمي منذ سنوات كانت الأعين تشير بشكل خفي إلى غرفة نوم أمي، لم أشك في شيء لم أعد إلى هناك، مشيت ببطء عن المعتاد، وصلت إلى الغرفة، مددت البصر من خلال الباب الذي كان موارباً وبداخله لمحت جدتي تجلس إلى طرف السرير، ورجلاً يدس أدواته في حقيبة ويستخرج منها ورقة وقلماً، ويشرع في الكتابة.
تحاشيت النظر إلى السرير، لم أدرك السبب وقتها لعله كان إنذاراً داخلياً بالخطر، وكان أولَ ما طالعني قدماها المتورمتان حين التقت أعيننا كانت تبتسم، أصر الرجل الذي عرفت فيما بعد على أنه الطبيب على نقلها إلى المستشفى، وكانت تلك فقط البداية.
يكره الفتى المرض، ولكن المرض أصر على أن يصاحبه طوال عمره، كان يسكن أرجاء الطفولة؛ إذ تعاني الأم من انسداد الشرايين، مما جعل الموت يجوب ساحات المنزل في انتظار اقتناص الفريسة.
علمه ذلك الرعب المبكر أن يبكي متضرعاً للموت أن يرحل ولا يعود، أصابه الخوف بأزمات صدرية علمته أن يحقن نفسه بالكورتيزون حتى انتفخ كالكرة، أجرى عمليتين جراحيتين لأمراض مختلفة، وما زال ينتظر الثالثة رغم أنه لم يتجاوز الأربعين.
المرأة السبعينية التي تدرس له اللغة في البلاد البعيدة كانت تشكو من تورم القدمين دائماً، ألحَّ عليها أن تراجع الطبيب، ابتسمت دون أن تجيب، انتقلت بالحديث إلى رواية موراكامي 1Q84، قالت: يبدو تنغو هو موراكامي حين يعيد كتابة رواية أورويل ١٩٨٤، أردفت: نحتاج في أحيان كثيرة إلى خلق عالم موازٍ يطوي المسافات بعيداً عن ألم الآني، وكلما كان عالمنا الموازي مغرقاً في الخيال كنا أكثر قدرةً على التحمل، كان يرى الرواية بشكل مختلف ولكنه لم يتساءل كيف؟ فما زال مشدوداً إلى قدميها المتورمتين، أعاد في رجاء: "عليك أن تراجعي الطبيب"، خبرته السابقة تنبئه بأشياء غامضة، ابتسمت ولم تجِب.
أسرعت إلى الهاتف، لم يكن وقتها المحمول قد ظهر وقتها، بل كانت التليفونات الأرضيّة نادرة، اتصلت برجل كتبت إحدى الصحف أنه يستطيع شفاء المرضى عن بُعد بعلاقته ببعض القوى الميتافيزيقية.
لم يجب الهاتف على الطرف الآخر في المرة الأولى، كانت يداي مرتبكتين وأنا أطلب الرقم للمرة الثانية، اضطررت إلى عادته عدة مرات، حتى أتأكد من أنه صواب، كنت أحتفظ بالرقم في قصاصة اقتطعتها من الصحيفة التي نشرت الموضوع، أكد لي حدسي أنني سأحتاجها يوماً ما، ولعله هذا اليوم، جاوبتني امرأة على الطرف الآخر، سألت عما أريد، حكيت لها الحكاية في عجالة، كان صوت المرأة حاسماً: الأستاذ مريض جداً ولا يستطيع أن يجيب على الهاتف.
وضعت السماعة مكانها بينما أنا مستغرق في الضحك بشكل هستيري، ظنني الحاضرون قد جُننت، طلب منّي والدي أن أكفّ عن الضحك، دلفت إلى الحجرة مجدداً، لكن كل شيء قد انتهى.. هزي إليك بِجِذْع النخلة أو لا تهزين فلن يسقط اليوم منها رطب ندي.. كان عليَّ أن أتعود الحياة دون مدفأة شتاء أو سحابة صيف.
انزلق الفتى من الرحم إلى العالم حين بلغ الحادية والعشرين، تماماً في الساعة التي رحلت فيها عن الحياة، نزعوه من جانبها حين تُكوَّر محتضناً إياها داخل القبر تشبث بها، رفض أن يغادر حتى همست في أذنه: اذهب سآتيك في المساء، لم تجِئ في الليل كما وعدت بقي ساهراً منتظراً أن تدخل حجرته، كما اعتادت فتعانقه حتى ينام.
في الصباح كاد ينفجر من الغضب لماذا لم تجئ؟ إنها المرة الأولى التي تخلف وعدها له، انتظر ثلاث ليالٍ لا يستطيع النوم؛ إذ لا يعرف كيف ينام إلا إذا احتضنته وهدهدته.
في صباح الليلة الرابعة جاءته رسالة منها عبر أخيه تخبره أن عليه أن ينام إذا أراد رؤيتها، حاول النوم في الظلام كما اعتاد لكنه لم يستطِع، أضاء النور حينها فقط نام، لم تجئ أيضاً، ظل ينتظر حتى أخبره أخوه مرة أخرى أنها لن تجيء إلا إذا أطفأ النور، وهو لا ينام إذا انطفأ النور، وهي لا تجيء إلا في الظلام، ومنذ ذلك الوقت وهو ينتظر.
خمسة وعشرون عاماً الآن، خمسة وعشرون عاماً من الغياب، وبضعة وأربعون عاماً تبحث عن حكاية مختلفة، إلا أن كل الحكايات تشير إليها في النهاية، فهي صانعة الحكايات وكتاب البهجة.
قد تجرب آلاف النساء وآلاف المدن، ولكنها تبقى المدينة الوحيدة التي تورط الفتى في حبّها بلا تردد، والمرأة الوحيدة التي يسكن في عينيها كل الوجد دون تباريح الهوى؛ لأنها التي قبلته على عتباتها كما هو بخطاياه وذنوبه دون أن تطلب منه التوبة أو الاعتذار.
بالأمس زار الفتى المرأة السبعينية في المستشفى حاملاً باقة من زهور الأوركيد، على باب الغرفة كتب الرقم خمسة باليابانية القديمة ويسبقه رقم ثلاثة، في المستشفيات اليابانية مستحيل أن توجد غرفة تحمل رقم أربعة؛ حيث يتشابه رقم أربعة في النطق مع كلمة "موت"، فهل يمكن مراوغة الموت؟
كان وجهها شاحباً يحمل نفس الابتسامة الغامضة التي رآها منذ خمسة وعشرين عاماً، اعتدلت، تكلمت كثيراً بسعادة عن "جسور مقاطعة ماديسون" للجميلة ستريب، تلك السعادة التي نقتنصها مرةً في حياتنا فنخفيها حتى عن أنفسنا، خوفاً من أن يختطفها الحزن أو الاعتياد، لم يتكلم، اكتفى بإيماءات من رأسه، كان الحدس الغامض يهاجمه بقوة، غادر منتوياً ألا يعود، فيما بعد علم أنها كانت ليلتها الأخيرة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.