إذا تحدَّثت عن انتماء مراهق لحزب ما في تونس، وإن كانت ظاهرة نادرة نسبيّاً فإنّ هذا الحزب لن يتجاوز دائرة الأحزاب ذات الفكر الشمولي، أمّا أحزاب الحكم فإنَّ الانتماء إليها نادر؛ نظراً لطبيعتها البراغماتية وخلوِّها من الأدلجة، وعدم امتلاكها مشروعاً قيمياً واضحاً.
في مثل هذا الإطار كانت قصتي، أنا الآن أقترب من التاسعة عشرة من عمري، كان لي سبق في الانتماء الحزبي، ومن هنا كانت البداية، كنت جالساً في أحد اللقاءات أتفحَّص الوجوه بانبهار تام، وأستحضر ما روي لي من قصص نضال خاضها هؤلاء من أجل سقوط الظلم وزوال النظام، وبين منفي وسجين وشهيد كان حالهم كذا وكذا.
حرَّك ذلك عاطفةً كبيرة في داخلي من أجل الانتماء، أن تقاسم هؤلاء فكرتهم أمر عظيم حقّاً، كان والدي رافضاً نسبياً، غير أنني كنت مصرّاً على عدم التراجع، أصبحت عندي صداقات جديدة، أصغر أصدقائي يفوقني بخمس سنوات، بين طلبة وخرّيجي جامعات كانت دائرة علاقاتي، أتقاسم معهم الأفكار والنقاش، وهو ما دفعني إلى الغرق في الكتب حتَّى لا أفقد مكانتي بينهم، ولا أنهزم في أيِّ نقاش.
نعم كان حساب الأمر عندي انتصاراً أو هزيمة، من هنا كان التأثير السلبي لكلِّ ما سبق، إذ إنني أصبحت أعيش غربةً نسبيَّةً عن أبناء جيلي، بلغت حدَّ الاختلاف في طريقة الكلام وطريقة اللباس حتّى (تفصيل مهم). كنت أفكِّر دائماً في مآل الأوضاع القائمة؛ إذ إن الفترة كانت معقَّدة جدّاً، الثورة على المحك والمسار مهدّد والمستهدف نحن، استقطاب ثنائي عميق عمّق الولاء داخلياً، حسناً لم يكن تعصبّاً، لكن كان تنافساً غليظاً فرضه الطرف الآخر، خاصّة إثر أحداث مصر التي كنّا نخاف إسقاطها على تونس والخروج عن المسار الديمقراطي.
كلُّ هذا كان يؤرقني في مثل هذه السن، بينما كان همُّ أغلب أقراني فوز فريقه، أو ما جادت به حنجرة فنَّان، لست أضعهم في موضع الخطأ، غير أنّني أحاول توصيف الواقع، إثر انتخابات 2014، بدأت الحياة السياسية في تونس تأخذ منعرجاً جديداً يغادر مرحلة الصراع إلى مرحلة التوافق، هنا وجدتني أغيب عن معنى الحضور عاطفيّاً؛ إذ أصبحت الحياة السياسيّة بالنسبة لشاب في مثل سنّي عقيمة لا روح فيها؛ إذ إن مبدأ التدافع غاب من زاوية نظر سطحيّة.
هنا مربط الفرس؛ إذ إن السياسة باعتبارها مجموعة خيارات لتسيير الشأن العام تستلزم حكمة وتريثاً وقراءة عميقة، لا يحتملها عقل المراهق الذي يميل إلى النتائج السريعة دائماً، وعليه فإنَّ الحل عنده سيكون أحد ثلاثة أمور؛ إمّا الولوج في حزب ثوري سلمي يعتمد المعارضة دائماً، بشرط أن يكون من نفس الدائرة السياسية، أو الخروج من الحياة السياسية جملة وتفصيلاً، أمَّا الخيار الثالث فهو خيار التبرير والموافقة والمسايرة.
هنا وجدتني أحاول التراجع نسبياً، لا رفضاً لمبادئ؛ لكن مغادرة لفوضى فُرضت عليَّ، لأجدني أحاول الالتقاء بأبناء جيلي مرّة أخرى، وتكون الصدمة، أن تجلس في مقهى مع من هو من أقرانك وتشهد حواراً معه في عدّة مجالات، لتجد تبايناً كبيراً يجعلك تشعر أنّك من تسعينات القرن الماضي، أمر محزن حقّاً، فإذا تحدّثتم عن الموسيقى ستحدّثه عن رباعيّات الخيّام بصوت أم كلثوم ليجيبك بأغنية لـ"Ed sheeran"، فإذا كان الحديث عن الكرة ستجد أنَّك ما زلت تظنُّ رونالدو البرازيلي لاعباً في ريال مدريد.
كلُّ هذا تتبيَّنُه عند عودتك من غربة عقليّة طويلة، طبعاً هذا لا ينفي المنافع التي تلقيتها من الانتماء من بناء تكوين معرفي عميق نسبياً، والالتقاء بشخصيات بارزة، غير أنَّ المراهقة يجب أن يكون لها بُعد آخر، سنّ المراهقة سنّ تضارب الأفكار وتقابلها في العقل، المراهقة تعني أن تقرأ العديد من الكتابات دون تحيُّز. لا تخف البحث الصادق سيقودك للحقيقة إذا ما اعتمدت عقلك، المراهقة هي أن تعيش حالة الجنون والإبداع، أن تتذوق الجمال في كل تفاصيل الحياة، أما إذا سرقتها مشاغل لا تخصّك فإنَّ النتائج ستكون عكسيّة لتعيش صباك في سنِّ الخمسين.
إذا كنت مراهقاً فحاول الدخول في المجتمع المدني عن طريق الجمعيات والنوادي، فالمجتمع المدني يؤطِّر بينما الأحزاب تُقولِب، سيحدِّثك الكثير عن أسامة بن زيد رضي الله عنه وغيره من القيادات التي تسلمت مهاماً في مراهقتها.
حسناً فلنتَّفق أنَّ المراهقة مفهوم عصري أحدثه سياق اجتماعي وثقافي معيَّن نعيشه اليوم، في ظلِّ طغيان منطق المادة، أي أن مراهق اليوم ليس بالضرورة لمن كان في سنه قبل قرون أن يكون مراهقاً أيضاً.
هذا الكلام مبني على تجربة شخصيَّة، ليست بالضرورة قياساً على كلِّ المنتمين في مثل هذه السنِّ.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.