أتاني صوتها المرتعش تحت وطأة الثمانين عاماً من المطبخ: أنا هنا..
وخرجت عليَّ تنوء بحمل "حلة" يتصاعد منها البخار، بدت "الحلة" ضخمة مقارنة بحجم جدتي الضئيل، هرولت إليها لأحملها عنها، وسألتها: إنتِ فين؟ عمالة أدور عليكِ، اختفيتِ فجأة!
نظرتْ إليَّ بعينيها الطيبة وقد لمعت لمعة فرحة مَن وقع على كنز ثمين أو سمين إذا أردنا تحري الدقة. وأشارت للحلة وقالت: هادوقك حاجة عمرك ما دوقتي زيها.
وضعتُ الحلة وكشفتُ الغطاء وراعني قطع من الدهن شاهقة البياض تطفو في كمية قليلة من المرق.
– دهن؟!
قلتها وقد أحسست بمغصة في بطني، ومئات الأعذار تتسابق في ذهني في محاولة لاختيار أفضلها والتعذر به عن تذوق ما بـ"الحلة".
جذبتني من ذراعي وقالت بفرحة وصوت من يبوح بسر خطير: مش دهن يا هبلة.. دا ضرة.
وكأن جدتي لا تدرك أنها زادت الأمر صعوبة عليّ.. أنا لا أرغب في التعرف إلى هذه "الضرة" ولا إلى تذوقها بالطبع.
تساءلتُ..
– ضرة؟!
– أيوة.
– اللي بترضع منها البقرة ولادها واللي بنحلب منها اللبن؟
لمعت عينيها أكثر وهي ترد: أيوة.
– ودي المفروض ناكلها عادي؟
– دوقي بس وهتدعيلي.
خطر في بالي أنه "مرار طافح"، كيف أتذوق هذا الشيء.. تذكرت جدتي ولهفتها وتعبها في صنعها وإحساسها بأنها استدعت شيئاً أسطوريًّا من وراء ترابيس أبواب التاريخ المغلقة فقط من أجلي. وأدركت أني ذائقة لا محالة من "حلة" جدتي..
استجمعت كل شجاعتي ونصبت أمام عيني صورة جدتي وهي تقف أمام النار وتطبخ فقط من أجلي وقرأت في سري كل آيات بر الوالدين وأغمضت عيني وأنفي وتذوقت طعام جدتي.
ثوانيَ ولم يحدث شيء، ولا مغص ولا غثيان. فتحت عيني وأنفي ومعها كل حلمات التذوق على لساني. وانبهرت، أخذت قضمة أخرى ولكنها قضمة تحرٍّ وتذوق، وهالني أنها أعجبتني، زدت وأخذت أخرى والتفتُّ لجدتي وعلى وجهها فرحة الانتصار والسعادة. وغمرتني فرحتها وسعادتها وذبت في حلة اللحم.
واحدة من حكاوى أنفي الكثيرة مع جدتي.. عامين قد مرا على فراقها، وكلما أغمضت عينيَّ وتنهدت.. كانت الذكريات تتراءى يربطها رابط واحد أكيد هو الروائح.
لجدتي روائح خاصة جدًّا بها. روائح تملأ على المكان وتستدعيها الذاكرة بكراً كأنها فاحت لتوها. رائحة الخبز في فرن الطين المبني في الباحة الخلفية للمنزل الكبير، فطير جدتي مشلتت وذرة لا مثيل لرائحته مهما طفت وأينما أكلت، رغيف الزبد والسكر الساخن الذي كانت تصنعه لي أمام الفرن، الفول المدمس في القدرة الفخار، وفول جدتي أظنه من طعام أهل الجنة، ما شممت رائحة أطيب منه. الخبيزة بالقشطة، شاي الشتاء على فحم الموقد النحاس والعيش "المقمر" المغمس بالجبن والحواديت يقهر الليل البارد الطويل.
كنت وما زلت أبحث عن سبب ربطي لذكرى جدتي بالروائح حتى تفاجأت بنفسي أصنع ما كانت تصنع جدتي.. صرت سر جدتي.. أعبر عن حبي لأولادي وأسرتي بل وأصحابي بالطعام، ولا عجب في ذلك فأول روابط الحب بين الأم وأولادها هو الطعام لبناً متدفقاً من صدرها، يمنحها كما يمنح وليدها دفئاً ومشاعر تعرفها كل أم.فتظل ترضعهم بعد الفطام طعاماً تعلق روائحه بأنوفهم وتلتصق بذكريات طفولتهم ويظل الأنف يبحث عن صدر الأم كلما غلبت النفس الذكرى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.