بهدوء لا يتناسب مع ما يذيعه من خبر، قال أحد الضباط في قسم شرطة مدينة نصر بالعاصمة المصرية القاهرة: "ابنك كان في شقة دعارة وحاولنا القبض عليه لكنه قفز من البلكونة فمات فوراً"، لم يصدق المهندس مدحت كامل، ما يسمع، فـ"هذه رواية مختلقة بالتأكيد وأحمد لازال حياً ويحقق معه الآن هم فقط ينكرون وجوده"، هكذا قال الرجل الخمسيني لنفسه.
وزاد شكه بعدما سمع رواية أخرى من ضابط آخر في نفس قسم الشرطة، التي تقول إن قوات الأمن ألقت القبض على أحمد لتنفيذ حكم صادر بحقه لمشاركته في مظاهرة دون ترخيص، وبعد وضعه في سيارة الشرطة قفز منها وهي تسير بسرعة فارتطم بالأرض ومات".
الضابطان أخبرا المهندس مدحت بنهاية واحدة رغم التفاصيل المختلفة، الملخص يقول إن ابنه قد مات، لكن الرجل لم يصدق كل ما يقال، وظل على هذه الحالة من الإنكار حتى رأى بعينه جثمان ابنه طالب الفرقة الخامسة بكلية طب جامعة عين شمس، رآه كما لو أنه يراه لأول مرة، مجرد جسد خالٍ من الكدمات والسحجات، فقط كسر في الجمجمة، ومادة لزجة في فمه، هو الآن مجرد رقم بين أرقام كثيرة دخلت تلك المشرحة، هنا فقط تأكد أن النصف الأخير من الرواية صحيح، ولم يعد هناك أمل أن يعود أحمد، لأنه فعلاً مات.
لكن ماذا يخص النصف الأول من الرواية، بعدما عاين الرجل جثة ابنه، تأكد أن كل ما يقال مجرد قصص مختلقة، ولم يعد منطقياً أن يصدق الرجل أن ابنه قفز من بلكونة شقة دعارة، ومات منتحراً هرباً من الشرطة، هو أيضاً لم يُلقِ بنفسه من سيارة الشرطة بعد القبض عليه، هنا في المشرحة وبعدما رأى الرجل جثة ابنه، بات على يقين بأن أحمد مات على يد أفراد من الشرطة، وهي نفس التهمة التي كتبها شقيق أحمد على صفحته الشخصية بفيسبوك مساء 30 أغسطس/آب 2016، "بالأمس في تمام الساعة الحادية عشرة والنصف مساءً قتل أخي على يد رجال الشرطة المصرية وذهبت جثته وحيداً الى مشرحة زينهم".
والد أحمد وشقيقه رفضا الاستسلام أمام الموروث الثقافي الشعبي الذي يقول إن "تشريح الجثة إهانة لها"، وإن "إكرام الميت دفنه"، ألقوا بتلك الكلمات جانباً، ورفضوا استلام الجثة، وطالبوا بتشريحها للكشف عن ملابسات الوفاة، وتحديد أسبابها. في البداية رفضت النيابة العامة تحرير محضر باتهام الداخلية بتعذيب أحمد وقتله، لكن بعد ضغوط فتحت النيابة محضرًا وسجلت اتهامات المهندس كمال وشقيق أحمد.
كانت الحالة النفسية لوالد أحمد صعبة، ورفض الحديث لـ"عربي بوست"، عن الساعات الأخيرة في حياة نجله، وظل يردد: "حسبي الله ونعم الوكيل"، لم يُنهِ الاتصال ولكنه ترك الهاتف. الشخص الذي يملك خيوط القضية هو محامي القتيل، وحده الذي يمتلك أعصابه.
فقال أحمد سعيد، محامي الأسرة، في اتصال مع "عربي بوست"، إن آخر اتصال بأحمد كان عند حوالي 8 مساء الإثنين 29 أغسطس/آب الماضي، وكان اتصالاً عادياً، وبعده حاولت الاتصال به كثيراً لكنه لم يرد ثم أغلق الهاتف"، ويضيف: "بعد ساعات سيطر القلق على الجميع، فذهبوا إلى قسم الشرطة، كونه الاحتمال الأقرب، لأن هناك حكماً غيابياً بعامين صادر بحق أحمد لاتهامه بالتظاهر دون تصريح، ذهب والد أحمد مع شقيقه إلى قسم مدينة نصر وأنكر الضباط في البداية أي معلومات لديهم عن أحمد، وطالبوهم بالحضور مرة أخرى في الصباح ربما تتوافر أي معلومات جديدة".
ويتابع المحامي في الصباح أخبر الضباط شقيق أحمد بأنه تم إلقاء القبض عليه من أحد النوادي الصحية بمدينة نصر في قضية دعارة، غير أنه ألقى بنفسه من الدور الثاني أثناء اقتحام قوات الشرطة للنادي الصحي ولقى حتفه فوراً.
يقول المحامي إنهم واجهوا تعنتاً في الرد على حقهم في الاطلاع على محضر القضية، وبعد مماطلة اطلعوا عليه، اكتشف أن وصف الحادثة يقول إن أحمد اقتحم شباك زجاج مغلق عند القفز من النافذة، وقفز منه إلى الشارع، واستطرد: "كيف ذلك ولم يكن هناك جروح في جسده أو كدمات كل الإصابات عبارة عن جرح في الجمجمة".
ويضيف المحامي أن المحضر تضمن أقوالاً لثماني فتيات، كانوا في محل الواقعة، 7 منهن أنكرن معرفتهن بأحمد أو رؤيته، وفتاة واحدة قالت إنها رأته في استقبال النادي الصحي. بتلك التصريحات ينفي سعد رواية الداخلية، التي لم تنطلي على آخرين أيضاً، واعتبروا ما حدث عملية تصفية تستهدف بث الرعب في نفوس الشباب تحديداً.
وانتقدت الناقدة الفنية ماجدة خير الله رواية الداخلية، وقالت على حسابها بفيسبوك: "ما تشوفوا سيناريوهات أكثر منطقية وتماسك، وبلاش غباوة بقى".
لا يمكن نزع ما حدث مع أحمد مدحت من السياق التاريخي لتصرفات الشرطة المصرية، إذ كررت نفس السيناريو مع أكثر من واقعة من قبل، ووفقاً للدكتورة عايدة سيف مديرة مركز النديم لتأهيل ضحايا التعذيب، في حديث مع "عربي بوست"، فإن تلك الواقعة تذكرها بكل ضحايا من قتلوا تحت التعذيب.
وتقول: "قالوا عن جوليو ريجيني في البداية إنه قُتل في حادث سيارة، ثم قالوا إنه قُتل بسبب ميوله الجنسية"، وليس ريجيني وحده الذي تعرض للقتل ثم التشويه، ولعل أشهر الحالات كانت للشاب خالد سعيد الذي قتل بعد تعذيبه بأحد أقسام الشرطة بمحافظة الإسكندرية، قبل ثورة يناير/تشرين الثاني 2011، وقالت الداخلية وقتها إن خالد مات بعدما ابتلع لفافة مخدر البانجو، لا ترى سيف الدولة أن تكون هناك أي تحقيقات في هذه الواقعة، "كل المؤشرات تقول إن الأمر سيمر".
وتضيف: "هم يرون أن أرواح البشر لا قيمة لها"، وتؤكد أنه "لا توجد جهة ما تجبرهم على التوقف عن تلك الممارسات"، بينما يقول جورج إسحاق، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، في حديث مع "عربي بوست"، إن المجلس سيقوم بدوره، ويؤكد: "سنحقق في القضية"، كاشفاً عن أن الواقعة طُرحت على المجلس في الاجتماع الدوري يوم الخميس، وقرروا تشكيل لجنة تقصّي حقائق حولها، رافضًا التنبؤ بما ستصل إليه اللجنة، ومشدداً على أن اللجنة ستعمل على الوصول إلى الحقيقة كاملة، وسترفع بذلك تقريراً للمجلس.