الاغتراب الحلبي عبر التاريخ

وهكذا نجد أنه مهما تعلق الفرد بأرضه لا بد من أن يواجه مصاعب ترغمه على الابتعاد ومواجهة سلبيات الاغتراب، إلا أن الحلبي وتاريخه الحافل بهذه الرحلات أثبت أنه قادر على الانخراط في المجتمعات الأخرى، بل إثبات نفسه وبقوة من خلال النجاحات الكبيرة التي حققها في بقع الأرض العديدة التي وطئتها قدمه، وصدق من قال إنه "لا توجد سماء بلا نجوم، وكذلك لا توجد أرض لم يصلها حلبي".

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/13 الساعة 01:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/13 الساعة 01:51 بتوقيت غرينتش

"الهجرة" عنوان عريض تسيّد عناوين المنطقة في السنين الأخيرة، ورسم أبعاداً عديدة اجتماعياً على الأرض هنا، وفي بلاد المهجر، فلا بد للمغترب غالباً أن يحمل ثقافة وتقاليد بلاده، ويعطي منها أينما حل، ومثال على ذلك ذكريات الحلبيين مع الاغتراب؛ حيث إن لهذه الظاهرة الاجتماعية في مدينة حلب تاريخاً قديماً يصل لقرنين، والتي اختلفت بأزمانها وأسبابها وأحداثها.

نستعرض نبذة قصيرة عن المراحل التي مر بها الاغتراب الحلبي:
الاغتراب الأول: ويصل لعام 1695م؛ حيث رحل عن حلب ثلاثة رهبان هم: جبرائيل حوا، وعبد الله قرة لي، ويوسف البين، وأسسوا في لبنان الرهبانيات المارونية.

ومن المعروف أن أول ظهور للطباعة في اللغة العربية كان في مدينة حلب عام 1702م، وليس كما هو متعارف عليه أن أول مطبعة أتت مع نابليون بونابارت وحملته؛ حيث طورّها الحلبيون، وطوروا مسابك الحروف العربية، فانتشرت الثقافة ضمن حلب أكثر من أية مدينة شرقية أخرى، وعند نزوح عدد من العائلات الحلبية إلى البلاد الأخرى، وخاصة إلى لبنان، أنشأوا فيها المطابع والمدارس والأديرة، فقد أنشأ الشماس الحلبي عبد الله الزاخر أول مطبعة عربية في لبنان، وذلك في دير مار يوحنا الصائغ في الخنشارة، علماً أن هذا الاغتراب يوصف بكونه دينياً في معظمه.

الاغتراب الثاني: كان القرن التاسع عشر عهد تقهقر لحلب؛ إذ وقعت فيها ثورتا الانكشارية في عامي 1814م و1826م، وزلازل أعوام 1822م و1827م و1832م، ومرض الطاعون عام 1814م، والوباء الأصفر عام 1832م.

كما أنه جرى في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، الذي اتصف بأنه هجرة المثقفين الذين لم تعد حلب تتسع لطموحاتهم، وهجرة المؤهلين من التجار، الذين لاحظوا أن تجارة حلب قد تدنت إلى عُشر ما كانت عليه بعد افتتاح قناة السويس، فلم تعد حلب المركز التجاري الأهم في الشرق، والمحطة الرئيسية على طريق الهند، كما لم تعد القوافل تمر بها؛ حيث ذكر الأسدي في المجلد الثالث من موسوعته (ص 240)، عن الأثر الذي تركه افتتاح قناة السويس على حلب والهجرة التي حصلت، ما يلي:
"وكانت الضربة الكبرى فتح قناة السويس سنة 1868م، فانتقل على أثرها كثير من تجار حلب إلى دمشق وبيروت والإسكندرية والقاهرة وطنطا ومانشستر ومارسيليا وميلانو وغيرها.
وبعد أن كانت تجارة حلب تقدر سنوياً بـ18 مليون فرنك، هبطت إلى نحو مليون وثلاثة أرباعه".

وقد هاجر الحلبي المسيحي زكي مغامز إلى إسطنبول في نهاية القرن الماضي، وحرر في أهم صُحفها، وأصبح عضواً في مجلس إدارة إسطنبول، كما ترجم معاني القرآن الكريم إلى التركية في مجلدين ضخمين، وترجم كتاب "تاريخ التمدن الإسلامي" لجرجي زيدان في ثلاثة أجزاء للتركية أيضاً.

ولا بد من أن نشير إلى الشيخ أبو الهدى الصيادي، الذي كان نقيب الأشراف في حلب وكافة ولايات سوريا وديار بكر وبغداد والبصرة، ثم قربه السلطان عبد الحميد وجعله نديمه ورئيس مجلس المشايخ في دار الخلافة، وأغدق عليه الأموال والمناصب والأوسمة، وطبقت شهرته الآفاق، وشغل الناس طوال ربع قرن، وألف قرابة المائة كتاب حول "التصوف والطرق الصوفية، والسلالة الرفاعية، ودعم السلطان".

وضمن هجرة المثقفين وذوي الحكمة أيضاً وقتها؛ حيث هاجر الحلبيون إلى إسطنبول ولندن ومانشستر وباريس وليون ومارسيليا (هاجرت إليها عائلة ضاهر وأنشأت شركة بحرية باسمها) وروما وأثينا وبومباي وكلكوتا وغيرها من المدن، ومن أهم مَن هاجر إلى إسطنبول عدد من أفراد عائلتي كوسا وتوتونجي المتصاهرتين، ونالوا التقدير من السلاطين، فعينوا منهم (ذلك لأنه قد تقرر دولياً أن يكون حاكم جبل لبنان عثمانياً مسيحياً غير لبناني):
– فرنكو كوسا أفندي متصرفاً على جبل لبنان من 1868م وحتى وفاته.
– نعوم توتونجي باشا متصرفاً على جبل لبنان من 1892م ولغاية 1902م، وبعدها عُين سفيراً للسلطنة العثمانية في باريس.

كما أن رزق الله حسون هاجر مع عائلته من حلب إلى إسطنبول وأسس هناك أول جريدة صدرت باللغة العربية عام 1855م باسم "مرآة الأحوال"، ثم اختلف مع السلطان عبد العزيز، فنزح إلى لندن، وتابع منها إصدار جريدته، وشن حملة شعواء على العثمانيين، بالإضافة إلى أنه هاجر حلبيون أعلام إلى مصر كعبد الرحمن الكواكبي (مؤلف كتابَي: أم القرى وطبائع الاستبداد)، وعبد المسيح أنطاكي (صاحب مجلة الجذور الحلبية ومجلة العمران في القاهرة)، وسيدة من آل كبابة أدارت جريدة "الأهرام".

كما هاجر العديد غيرهم، وأسهموا في نهضة مصر الثقافية، كما أسهم الموسيقيون الحلبيون بنهضتها الفنية، ونذكر من هؤلاء الفنانين أنطوان الشوا وولديه سامي وفاضل، وجميل عويس، ومن أعلام الحلبيين في مصر: يوسف سابا باشا وزير المالية، وعزيز خانكي المؤرخ القانوني، والناشر عيسى البابي الحلبي، والصناعيان يوسف بخاش وثابت ثابت.

الاغتراب الثالث: وصفته الغالبية بأنه هجرة شعبية بدأت بشكل واسع عام 1908م، وكان يسافر من حلب أربعون شخصاً في الأسبوع هرباً من التجنيد العثماني، واستمرت هذه الهجرة بعد الحرب طلباً للرزق في كافة أنحاء العالم، وخاصة إلى ضاحيتي بروكلن وباترسن في نيويورك، وإلى البرازيل والأرجنتين وسائر دول أميركا الجنوبية، وعمل معظمهم كبائعين متجولين، ثم أصبحوا من كبار التجار والصناعيين.

ولعلنا نجد في منتصف ذلك القرن الأديب عبد الله يوركي حلاق، الذي أمضى عمره المديد في رحلة شاقة يحتمل الفشل والخيبات حتى وصل إلى سلم الشهرة، فلا تذكر مجلة "الضاد" إلا وتقترن باسمه، وهو الذي أسسها يافعاً قبل السن القانونية، وحضنها شاباً يافعاً وشيخاً جليلاً.

ففي رحلتها الطويلة الحافلة بالعطاء والمنغصات فتحت "الضادُّ" صدرها الرحب وقلبها الدافئ للأدباء من سوريا والوطن العربي ومن الأميركيتين، فكان لها الدور البارز في مدِّ الجذور وبسط عُرى الانتماء القومي بين المهجر والوطن، وبين أبناء العروبة الذين وجدوا فيها متنفسهم النقي.

وعبّر عن حبه وشوقه إلى الشهباء وهو في كندا، فيقول في عصير الحرمان:

إني حننت إلى الشهباء يا كندا ** متى أراها؟ فمني الصبر قد نفدا
ما كنت أحسب أن البعد عن وطني ** وعن صحابي يذيب الروح والجسدا

الاغتراب الرابع: وهو الاغتراب الحديث الذي شمل بعض المثقفين الذين غادروا حلب لإكمال دراساتهم العليا في الخارج، وبقوا بعد التخرج هناك، كذلك هجرة بعض العائلات التجارية والصناعية باتجاه لبنان على الأغلب، ثم هجرة العمال والموظفين والحرفيين إلى فنزويلا والبلاد العربية وغيرها، أي أنها توصف بهجرة البحث عن تحسينٍ للحالة الاقتصادية والبحث عن فرص عمل وتعليم.

الاغتراب الخامس: (الحالي) في ظل الصراعات التي تسود المنطقة في السنين الأخيرة فبلا شك أن حلب جنت حصتها الكبيرة من الدمار والتهجير مثل شقيقاتها السوريات؛ حيث عزم العديد من العائلات السورية والشباب السوري على الهجرة والعبور إلى دول أوروبية كألمانيا والسويد، تحت أهداف عديدة ومختلفة، منها الأمان والمنح المالية، والأهم الحصول على بيئة حاضنة تحوي كل مقومات العيش الهنيء لتأمين مستقبل أفضل؛ حيث لم تعد البلاد قادرة على تلبية الاحتياجات المادية والمعنوية بما تعيشه من حروب واقتتال.

وهكذا نجد أنه مهما تعلق الفرد بأرضه لا بد من أن يواجه مصاعب ترغمه على الابتعاد ومواجهة سلبيات الاغتراب، إلا أن الحلبي وتاريخه الحافل بهذه الرحلات أثبت أنه قادر على الانخراط في المجتمعات الأخرى، بل إثبات نفسه وبقوة من خلال النجاحات الكبيرة التي حققها في بقع الأرض العديدة التي وطئتها قدمه، وصدق من قال إنه "لا توجد سماء بلا نجوم، وكذلك لا توجد أرض لم يصلها حلبي".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد