بعد ساعة ونصف قضيتها في مشاهدة فيلم "الأيادي الموهوبة Gifted Hands"، وبعد كم التحفيز الكبير الموجود في هذا الفيلم، وجدت نفسي غارقا بسيل من الأفكار حول الواقع الذي صوّره الفيلم عن حياة طبيب الأعصاب الشهير "بن كارسون" (وهو طبيب الأعصاب الذي قام باجراء العديد من العمليات الصعبة للأطفال خصوصا أول عملية فصل توأمين في العام 1987م) وبين الواقع الذي يعيشه أطفال وشباب الوطن العربي. كيف للأم المتعلمة تعليما بسيطا أن تقود الى هذا النجاح في ابنها؟ وكيف لمعلمة المدرسة أن تكون مثالا وقدوة لتحفيز طلبتها؟ وكيف للزوجة أن تكون سندا لزوجها في مشوار حياته؟ وكيف للعنصرية البغيضة أن تخلق في داخل الانسان العزيمة والقوة على تحقيق ما يجعل العنصري يقف احتراما للانجازات؟
الأم مدرسة
من قال أن الأم عندما تكون ذات تعليم منخفض يعني أن ابنائها يجب أن يكونوا مثلها؟ إن الحديث عن دور الأم الذي ظهر في الفيلم قد يحتاج الى الكثير من المقالات، فكل جزئية وكل كلمة تفوهت بها الأم في هذا الفيلم عبارة عن دورة تدريبية مكثفة يجب أن يتم تعليمها للأمهات، ابتداءا من تأكيدها المستمر على أن "بن" ليس غبيا كما كان يصف نفسه، ولكنه انسان ذكي جدا لا يستخدم هذا الذكاء، وليس انتهاءا بتحفيزه على التخيل فهو الوسيلة الأفضل للوصول الى النجاح.
دور الأم كان واضحا في هذا الفيلم، فهي التي كانت منذ أن كان ابنها طفلا الى أن أصبح أكبر وأشهر طبيبا للأعصاب تذكّره بمقولة "تستطيع القيام بأي أمر يفعله الآخرون، لكن أنت الوحيد من يفعله بشكل أفضل". ولك أن تتخيل عزيزي القارئ مفعول هذه الجملة على الابن عند سماعها، بدلا من سماع كلمات من قبيل "شوفلك شغلة اعملها!" أو "حِل عنّي!" والتي نسمعها من بعض الأمهات.
إن الأم لا يقتصر دورها في الرعاية على تجهيز الأكل والشرب، وكي الملابس وايقاظ الأبناء صباحا كما تعتقد بعض الامهات، بل يتعدى هذا الامر الى متابعة الدروس في المنزل، والتواصل مع المدرسة، والحث على تزوّد الأبناء بالمعرفة خارج نطاق الكتاب المدرسي، إذ أن النجاح لا يأتي مما هو في الكتب المدرسية، وإنما يأتي مما يتم قراءته بين دفّات الكتب والمراجع، وهو ما فطنت إليه أم "بن" عند رؤيتها للدكتور الذي تعمل على تنظيف منزله وقد ملأ مكتبه بالكتب، فانبرهت بذلك وعادت الى منزلها تحث ابنائها على القراءة، ولكن ذلك كان حتما سيستضم برغبات ابنائها باللعب واللهو، فما كان منها الا الحزم في قرارها بضرورة قراءة كتابين أسبوعيا وايفائها بالتقرير عنهما في نهاية الأسبوع، بل زادت من ذلك أيضا بتحديد البرامج التي سيروها ابناؤها على التلفاز، وعند معارضتهم ذلك، أخبرتهم بنبرة الواثقة "انتم تقضون وقتا طويلا في مشاهدة التلفاز، ولو انكم استغليتم ذلك الوقت في القراءة سيأتي اليوم الذي يشاهدونكم عليه" وهو ما تحقق بالفعل عندما توجهت الأنظار الى ذلك الطبيب الذي فصل توأمين عن بعضهما البعض في أول عملية جراحية من هذا النوع، فكانت حينها نظرات الأم الفخورة بانجازها.
وتواصل الأم في أحداث الفيلم تحفيز ابنها، معطية درسا للأمهات بأن اسمعوا لأبنائكم ووجهوهم، ولا تتركوهم للشارع أو الأوهام تفعل بهم الافاعيل كما تفعلن بعض الأمهات بحجة أن الأبناء يزعجونها وأن أعمال المنزل تتراكم عليها، فتخسر بذلك أبنائها. لقد قال "بن" لأمه "أريد أن اكون طبيبا مشهورا" فردت عليه أيضا بثقة "يمكنك أن تكون أي شيء تريد ان تكونه في هذه الحياة، طالما أنك تسعى إليه" وهنا ألف ألف خط تحت كلمة "تسعى إليه" فهو السبيل الوحيد لتحقيق ما يريده الانسان في حياته، أي أنه هو السبيل الوحيد للانجاز.
المدرسة والمدرّس
كما أن الأم مدرسة، فإن المدرسة هي البيت الثاني للطفل، وفيها يتم صقل شخصيته وتزويده بالمعارف والمهارات وأيضا بالسلوكيات والأخلاق، لذلك فإن دور المدرّس في المدرسة خطير، وليس هو فقط بضع سويعات يقضيها بين الطلبة شارحا لهم مافي الكتب، فالأمر أعقد من ذلك وأهم!.
إن دور المدرّس أن يأخذ بيد الطالب إلى النجاح والإنجاز، أن ينقله من مرحلة التلقي الى مرحلة الادراك لما حوله، وأن يعزز فيه قيم الثقة بالنفس والمثابرة والاجتهاد، وأن لا يضع الطالب في احساس الفشل حتى لو كان الطالب فاشلا، فكلنا يعلم بأن الطالب لو شعر بهذا الشعور مرّة لن يعود يثق بنفسه أبدا، وسيقول "طالما انني فاشل، فلماذا اتعب!" وهي المرحلة التي نفقد حينها نفسا قد تكون ذات شأن في المستقبل.
إن هذا بالضبط ما فعلته مدرّسة "بن" عندما أخبرها بعلامته في الاختبار بأنها "صفر" فتظاهرت بأنها سمعتها "تسعة" وسجلتها كذلك في دفتر العلامات، وكذلك كلماتها التشجعية التي كانت تقولها له عند كل علامة يحصل عليها من قبيل "أحسنت، ممتاز، أداؤك في تحسن، وهكذا".
الزوجة
كل انسان يحتاج الى التشجيع، وتشجيع الزوجة لزوجها أمر مهم خصوصا وأنه يأتي في ظل انشغالها بمتابعة أمور المنزل والأبناء، الأمر الذي يقدّره الزوج ويجعله الدافع الأول له لمزيد من الانجاز من أجل أسرته، إلا أن بعض الزوجات وللأسف الشديد تظن ان انشغالها بحاجيات المنزل والأبناء بتعليمهم ومراعاة شؤونهم يغنيها عن الاهتمام بما يهم زوجها خاصة فيما يتعلق بأمر يحيّره أو يحبّه على حد سواء. لقد ظهر ذلك جليا واضحا في سؤال زوجة "بن" عن عمله في كل مرّة، وتشجيعه على التميز أيام الجامعة ومساعدته في ذلك.
العنصرية يعني مزيدا من الجهد
قد تكون الحياة في بعض محطاتها وردية ومليئة بالنجاحات، ولكن تأتي في بعض الأحيان بعض التصرفات من البعض تجعلك تشعر وكأن الحياة تتوقف وأن على الانسان أن يتخلص من أحلام يقظته وطموحاته التي يود انجازها، وهذا إن تم فهو بداية النهاية بالفعل.
لقد واجه "بن" العنصرية من النوع الأبيض، فلقد كان لونه الأسمر مدعاة للكثير من المشاكل والاقصاء، فعانى منه وهو طالب في المدرسة، وعانى منه وهو طبيب في احدى جولات مجموعة الأطباء على المرضى، لكن هذا كله لن يثنيه عن ما يريد تحقيقه، ولم يمنعه ذلك كله من أن يكون الطبيب رقم واحد في وقته في جراحة الأعصاب، ذلك فقط لانه آمن بأن لديه حلم وجب عليه تحقيقه، وما كل ما يحدث له الا لحظات ومواقف تريد أن تلهيه عن هدفه.
بعد ساعة ونصف من مشاهدة الفيلم، يبقى أن أقول: "كم من يد موهوبة فقدناها لأن أمها كانت قاسيةَ مهملة، وكم من يد موهوبة فقدناها لأن بيئة المدرسة عندنا لا ترقى لأن تكون البيت الثاني للطفل، وكم من يد موهوبة فقدناها لأننا لم نوفر لها الرعاية والاحتضان، وكم من يد موهوبة فقدناها لأنها لم تجد الا الشارع ملجأ للهوها ولعبها بدلا من المكتبة والمختبر، وكم من يد موهوبة فقدناها لأنها لم تجد كلمة تحفيزية، وطبطبة حانية عليها عند وجعهها وآلامها، وكم من يد موهوبة فقدناها لأننا لم نستطع أن نقول لها "تستطيعي القيام بأي أمر يفعله الآخرين، لكنك أنتِ الوحيدة من يفعلها بشكل أفضل"".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.