تضعنا الحياة في كثير من الأحيان على مفترق طرق، وتضطرنا إلى سلوك طريق دون آخر، ما يعني اكتسابنا أموراً وخسارتنا أموراً أخرى. وفي أول عثرة تقابلنا في الطريق الذي اخترناه، نندم وتصوّر لنا أذهاننا -وكم هي بارعة في ذلك!- أن الطريق الذي لم نختره كان هو الطريق الأفضل. الضفة المقابلة دائماً تبدو أكثر جاذبية لنا.
في المقابل، هناك الكثير من القصص التي تثبت لنا شيئاً مهماً جداً؛ ألا وهو أن خياراتنا في كثير من الأحيان لا تحدد مصيرنا. الخيارات المتعددة والطرق المختلفة ستأخذنا جميعها إلى مصيرنا وستضعنا في مواجهة قدرنا. فإذا هرب المرء يوماً من قدر الله فسيلاقيه قضاؤه لا محالة.
جورج، شاب مسيحي، دمشقي الأصل، تزوج بحب حياته وهاجر معها إلى كندا، حيث قررا أن يؤسسا حياتهما. بعد سنتين من زواجهما، رزقهما الله بطفلة ملأت عليهما الدنيا حتى إنهما سمياها دنيا. وكما هو المولود الأول دائماً، يُحدث ضجة وجلبة ويسيطر على محور الحياة.
انشغل جورج وزوجته بدنيا وكل تفاصيلها، واشتريا كاميرا حديثة ليصور ابنته ويرصد جميع تحركاتها ويوثقها، وكلما اجتمع لديه 100 صورة يذهب إلى المصور لطباعتها وحفظها في ألبوم صور، كان يتأنَّى كثيراً في اختيار نوعه وشكله.
مرّ الوقت وكبرت دنيا، لكن الصور الوثائقية التي جمعها جورج كانت تخبره بشيء ما، وربما لاحظه دون تنبيه من الصور. شيءٌ ما في دنيا ليس طبيعياً، نظراتها تائهة، حركاتها عشوائية وبلا هدف، ضحكاتها فيها شيء من البَلَه.. أقلقته هذه الإشارات ودفعته إلى استشارة طبيب للأطفال. عندما رأى الطبيب دنيا أخبر جورج مباشرة بأن دنيا تعاني تخلفاً عقلياً، لكنه بحاجة لإجراء عدد من الفحوص؛ ليتأكد من ذلك.
أجرى الفحوص وتأكد من ذلك وأخبر جورج وزوجته بذلك، فانهارا بكاءً كالأطفال أمامه، فواساهما بقوله: "لا بأس عليكما، طفلتكما ليست أول ولا آخر طفلة تعاني هذه الحالة".
هكذا وببساطة، يخبره الطبيب بأن دنياه تعاني تخلفاً عقلياً، وهي ليست أول ولا آخر طفلة تولد بهذه الحالة! بالنسبة للطبيب هي حالة من الحالات، بالنسبة إلى جورج وزوجته هذه مصيبة.
لماذا هو؟! لماذا دنيا؟! ما السبب؟! هل تناولت زوجته دواءً سبَّب هذا المرض؟ هل المرض وراثي؟ هل هذا عقاب من الله على ذنب اقترفاه؟ هل هو امتحان؟ وغيرها من الأسئلة التي راودته وأرّقته وحرمته وزوجته النوم أياماً عديدة. كان حزيناً على نفسه وعلى دنيا، كيف ستعيش؟! أين ستدرس؟! لن تتزوج أبداً. لن يحظى بأحفاد منها أبداً.
الصدمة كانت صعبة جداً في بدايتها، لكن مرور الوقت كان كفيلاً بتقبّلهما الوضع وتأقلمهما معه.
بعد 5 سنوات، فكّر جورج وزوجته في إنجاب أخ أو أخت لدنيا؛ علّهما يكونان سنداً لها في الحياة. لكنهما كانا خائفين من أن يكون المرض وراثياً فقررا التبني. وفي أول زيارة لهما إلى دمشق بعد 8 سنوات من الهجرة، ذهبا إلى دار للأيتام وتبنّيا رضيعاً كانت قد تركتها والدتها على باب إحدى الكنائس؛ لتستر فضيحة أو عاراً قد يلحق بها، أو لأنها فقيرة بالكاد تعيل نفسها، أو لأسباب أخرى لا يعلمها إلا الله.
ولسبب لا يعلمه إلا الله أيضاً، كبرت الطفلة التي تبنَّياها، وإذ بجورج يلاحظ فيها شيئاً غريباً كان قد خَبرَه من قبل. أعراض لاحظها للمرة الأولى في طفلته الحبيبة دنيا، وها هو يراها في طفلته المتبنّاة!
سبحان مقدّر الأقدار!.. لم يشأ جورج وزوجته أن ينجبا خوفاً من أن يكون التخلف العقلي خللاً وراثياً سيظهر في كل الأطفال الذين سينجبانهم، وإذ بهما يعودان إلى دمشق؛ ليتبنّيا طفلة من دار الأيتام تعاني مثل ما تعانيه دنيا.
في صحيفة القدر لجورج طفلتان تعانيان التخلف العقلي.. بإمكانه أن ينجبهما بشكل طبيعي أو بتلقيح صناعي، بإمكانه أن يتبناهما من دار أيتام في دمشق أو أي مكان بالعالم، قد يُطرق باب منزله ليلاً ليجد طفلة متروكة على العتبة فيشفق عليها ويتكفلها، ليكتشف لاحقاً أنها تعاني تخلفاً عقلياً. بإمكاننا أن نتخيل مائة طريق؛ ليحظى جورج بطفلتين تعانيان التخلف العقلي. ببساطة؛ لأن ذلك هو قدره.
وهكذا هي الكثير من الطرق التي سنسلكها في حياتنا. في مسارات الحياة المختلفة قد تختلف المشاهد التي سنراها، قد يختلف الأشخاص الذين سيمرون في حياتنا، لكن النتيجة ستكون واحدة، والقرارات أو الخيارات التي تحدد مصيرنا فعلاً نادرة جداً في الحياة.
في المرات القادمة، عندما تضعك الحياة أمام خيار تظنه مصيرياً، تذكَّر قصة جورج واختر ما شئت. ستحظى بتجارب مختلفة، لكن النتيجة ستكون واحدة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.