يقول الأديب والمؤرخ المصري أحمد أمين متوفى 1954: (هل تعرف الفرق بين الحرير الطبيعي والحرير الصناعي، وبين الأسد وصورة الأسد، وبين النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة..؟ إن عرفت ذلك عرفت الفرق بين التدين الحقيقي والتدين الصناعي. إن هناك فرقاً واضحاً بين من يحمل الدين برأسه (عقله) أو بقلبه، ومَن يحمله برأسه وقلبه معاً، وهناك فرق بين مَن يكثر الكلام في الدين ومَن يكثر العمل به، ويمكننا القول إن هناك فرقاً بين المتدين الفارغ الذي يجوب الأسواق ويقلِّب صفحات النت، ويدمن على شبكات التواصل الاجتماعي، والمتدين صاحب المشروع الذي يعمل من أجله، شتان بين الرجلين.
والتدين الفاسد كما يذكر (الشيخ محمد الغزالي) قد يكون أشد ضرراً من فراغ القلب، وغفلته، وذاك سر ما ورد من أن النار أسرع إلى فسقة القراء منها إلى عبدة الأوثان. وقد مزَّق الله شمل المتدينين من بني إسرائيل قديماً وسلط عليهم عباد الأوثان؛ لأن التدين الفاسد ليس جديراً بالنصر! على أن الأيام دُول، وعندما يُصلح المسلمون شؤونهم يقترب منهم النصر البعيد. والتدين الجاهل يحسب التخفف في الدنيا أمارة على التقدم في الآخرة. وهذا فهم منكر! فإن الدخول إلى الإيمان يكون من باب العلم الحاذق، لا من باب القصور البليد. وإذا ذكر التدين سبق إلى الأذهان الزهد في الدنيا والبعد عنها، والحق أن التدين المعزول عن الدنيا أو العاجز فيها لا خير فيه، ولا جدوى منه. وقد قال أحد حكماء العرب وقد سمع وصايا (أواخر سورة الأنعام): لو لم يكن هذا ديناً لكان في خلق الناس حسناً.. إن التدين الفاسد يعتمد على مسالك "غبية"، موهماً أنها مسالك "غيبية".
والتدين في إحدى مظاهره يشكل حالة سطحية لدى العامة؛ حيث يتحول الدين إلى طقوس وأعياد ومناسبات، كأن يصبح رمضان شهر المطاعم والملاهي والتسوق والشراء، ويصبح الحج موسماً للتجارة والنزهة والإيجار والاستئجار.
ولا شك أن هذا اللون من التدين يرعاه الظلمة، ويشجّعه سدنة الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي، ويروّجون له، ويعتبرونه معياراً للتدين السليم، ويصورون ما وراءه من المجاهدة والمدافعة نوعاً من المغالاة، واستغلالاً للدين وتسييساً له.
وفي هذا السياق يوجه (أندريه مارسيد) نقداً إلى عبارة ماركس "الدين أفيون الشعوب"، ويرى أن أفيون الشعوب هو الدين المذنب وليس الدين الحقيقي، والدين المذنب هو الدين المشبع بالخرافة، والخرافة بالنسبة إلى الدين مثل الأيديولوجية بالنسبة إلى الفلسفة، والقيادات الشريرة تروّج للخرافة في مجال الدين وللأيديولوجية في مجال الفلسفة. وقد نبّه على ذلك الشاعر (عبد الله الحامد) بأسلوب أدبي لطيف، فقال: وتحفيظٌ لقرآنٍ *** وويل للذي فسَّرْ وإدغامٌ وإخفاءٌ *** وويل للذي أظهر.
تأمَّل هذه الآية: (.. الذين آمنوا وعملوا الصالحات..) إنها تتكرر بصيغتها أو معناها في القرآن أكثر من خمسين مرة، كأنما تؤكد لنا ضرورة توحيد أمرين اعتاد الناس على الفصل بينهما.
إن هذه الآية تعبّر عن الفرق بين الدين (الإيمان) وبين الأخلاق (عملُ الصالحات) كما تأمر في الوقت نفسه بضرورة أن يسير الاثنان معاً. كذلك يكشف لنا القرآن عن علاقة أخرى عكسية بين الأخلاق والدين، فيوجه نظرنا إلى أن الممارسة الأخلاقية قد تكـون حافـزاً قوياً على التدين: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبّون)، فمعنى الآية هنا لا يقول: "آمن لتصبح خيِّراً" وإنما على العكس يقول: "افعل الخير تصبح مؤمناً". وفي هذه النقطة نرى إجابة على سؤال: كيف يمكن للإنسان أن يقوّي إيمانه؟ والإجابة هي: "افعل الخير تجد الله أمامك". (علي عزت بيغوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب).
إن الأمية ليست مشكلة ثقافية فحسب، كما يقول (د. عبدالكريم بكار)، وإنما هي مشكلة دينية أيضاً؛ حيث إن فهم الإسلام بما هو بنية حضارية راقية، لا يتأتَّى على النحو المطلوب لمن لم يُؤتَ حظاً من المعرفة، حيث يصبح التدين شكلياً وهامشياً، وحيث يتم إدراك مرامي الإسلام وأهدافه بطريقة سوقية مبتذلة.
ولذلك يجب أن يرافق التدين وعي، وإلا أصبح هوساً وتعصباً مرعباً. والتدين الذي لا تصاحبه تربية سياسية وحِذقٌ لنظرياتها، ومعرفة بتياراتها ودروبها وفنونها، قد يثمر غفلة، إن ناسبت بعض طيّبي القلوب، فإنها لا تناسب الذين يتحملون مسؤوليات مصائر الأمم في هذه الميادين. كما يؤكد ذلك (د. محمد عمارة). ولهذا نحن لا نحتاج للعودة إلى الدين، ولكن نحتاج اللحاق به.
إن جذور الإشكالية في سقوطنا الحضاري تكمن في ذهاب الروح الحقيقية للدين في أروقة التاريخ وعقده، ومن ثم مسخة وتشويهه وتحويله لا تحوُّله إلى آخر يمارس على أنه الدين الإسلامي.
وسنورد ثلاثة نماذج نقدية شديدة الوقع والتأثير على العقول والنفوس، نأمل أن تُفهم في سياقها، وأن يؤخذ في الاعتبار مكانة قائليها، سواء اتفقنا معهم أم اختلفنا، وقد يكون في ألفاظهم قسوة وشدة، ولكنها قسوة وشدة المحب المشفق.
وأول هذه النماذج هو وصف المفكر والفيلسوف الإسلامي (محمد إقبال) لواقعنا المؤلم وما آلت إليه الأمة، في أنشودته المتألِّمة بصراحة لاذعة: "إن كعبتنا عامرة بأصنامنا، وإن الكفر ليضحك من إسلامنا، وإن شيخنا قامر بالإسلام في عشق الأصنام، واتخذ خيط مسبحته من الزنار. وهو في سفر دائم مع مريديه، وفي غفلة عن حاجات أمته. الوعاظ والصوفية عبدوا المناصب، وأضاعوا حرمة الملة البيضاء: واعظنا إلى بيت الصنم ناظر، ومفتينا بالفتوى يتاجر".
والنموذج الثاني نورده للإمام (محمد عبده) الذي كان يخاطب رئيس الهيئة التدريسية في جامعة الأزهر (البحيري آنذاك)، بعد رفض الثاني إصلاح الأزهر في مناهجه المعرفية محتجاً، أن نفس هذه المناهج جعلت (محمد عبده) عَلمَاً فرداً. لكن الإمام محمد عبده أجابه بسرعة: "إن كان لي نصيب من العلم فإني لم أحصِّله إلا بعد أن مكثت عشر سنين، أكنس من دماغي ما علق به من وساخة الأزهر، وهو إلى الآن لم يبلغ ما أريد من النظافة" (الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، تحقيق د: محمد عمارة، بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1980، ص 178).
وآخر هذه النماذج هو حادثة أوردها المفكر الجزائري (مالك بن نبي في كتابة العفن، ص156) تكاد تكون شبيهة بسابقتها، "عن الشيخ الموقر (العربي السبسي) عندما اختلف بن نبي ووالده على إيواء يتيم مشرد، فقال السبسي عن مالك: إن مالكاً ابن ملعون لوالده. ومن يومها، أصبحت (كما يقول ابن نبي) استفظع ثقافة الأزهر والزيتونة التي تقتل الضمائر والأرواح واعتبرها أسوأ كارثة يمكن أن تهدد العالم الإسلامي. وحتى يعيش الإسلام أو يبعث من جديد في الضمائر، يجب تخليصه مما يسمى اليوم "الثقافة الإسلامية" حسب الرؤية السبسية طبعاً، هذه الثقافة التي تلوث الأرواح وتذل الطبائع وتضعف الضمائر وتخنِّث الفضائل".
فمتى سنعرف أن الدين ليس لحية ولا مسبحة ولا عمامة، ولا حفظ آيات وأحاديث لا نطبقها، ولا خرافات ولا كهنوت ولا مناطقية ولا عنصرية ولا طائفية، ففي الدين الإسلامي لا فرق بين أبيض وأسود إلا بالتقوى، وإنما فيه أن المعاملة بين الناس واجبات وحقوق، تسامح وتراحم، إحسان ورفق ومودة، علم وعمل ومثابرة وجد واجتهاد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.