في البدايات الأولى من مساء يوم الاثنين الماضي، بينما كان المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يتحرّون رؤية هلال عيدهم المبارك، عيد الفطر السعيد، ويترقبون من يعلن لهم رؤيته ليطووا صفحة الشهر المعظم ويؤذنوا برحيله، داعين المولى سبحانه وتعالى القبول والمغفرة؛ بينما هم كذلك إذ يفجعهم خبر غاشم، يعلن لهم عن حدث اقشعّرت له أبدانهم وثارت له حميّتهم وعاطفتهم الإسلامية لتعلقه بالمساس بأحد أهم الأماكن المقدّسة لهم، مكان لا يزوره مسلم إلاّ ويسكب العبرات وتسيل فيه دموعه؛ حيث قبر الرسول صلى الله عليه وسلّم، ومقر دولته، ومأوى دعوته، وبين دفتيه قبور صحابته، وفي جنباته سيرته المعطرة .
من رهافة حسّ المسلمين تجاه المدينة المنورة، أني أذكر منذ عدّة سنوات حضرت أحد دروس علماء الحرم المدني، في ساحته المباركة؛ فكان إذا جاء ذكر المصطفى في درسه قال هذا العالم: قال ساكن هذا القبر، عليه أفضل الصلاة والسلام، وأشار بيده إليه، وكان في بعض التفاتاته لا يملك أن يمسك دمعه حباً وتعظيماً لمقام خير البشر صلى الله عليه وسلّم .
وكان إمام المحدثين، العالم المبجّل، صاحب أحد المذاهب الإسلامية الأربعة، سيدنا مالك رضي الله عنه وأرضاه إذا وصل المدينة المنوّرة؛ خلع نعليه ومشى حافياً، معللا ذلك بأنه لا يدوس بنعله على تراب فيه جسد الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام، وكان الإمام مالك يقول: (عسى أن تمس قدمي حصاة مستها قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ثم مضى هذا الفعل -فعل الإمام مالك- كما الأدب والخلق الرفيع انتهجه العلماء والنبلاء، في القديم والحديث، ومنهم فضيلة العلامة الشيخ محمد متولي الشعراوي، رحمه الله، الذي حينما أكرمه ربّه بزيارة المدينة المنورة فكان يمشي حافياً، فسُئل في ذلك، فأجاب بأنه لربما صادفت قدمه مكاناً وطئه صلى الله عليه وسلم .
للمدينة المنورة أسماء كثيرة أوصلها بعض المؤرخين إلى المائة، ويعود السبب في تعدّد أسمائها إلى علوّ قدرها وعظيم مكانتها عند المسلمين، بعضها معروف ومشهور، وبعضها غير ذلك، لكن يكفينا من أسمائها أنها (مأرز الإيمان) حيث سُميت بذلك، أخذاً من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها"، ومعنى (يأرز) يرجع ويثبت في المدينة، كما أن الحية إذا خرجت من جحرها رجعت إليه .
في فضائل طيبة وطابة ودار الهجرة ودار السنّة وقبّة الإسلام صدرت مئات وربما آلاف الرسائل والكتب، تحصي فضلها وتعظّم شأنها وتعدّد مآثرها وتؤكد علوّ قدرها ومكانتها المقدّسة في قلوب وأفئدة جميع المسلمين، في أقاصي الدنيا وأدناها، وذلك بشكل لا يتصور معه أن أحد المجرمين سيتجرأ على انتهاك قداسة هذه البقعة الطاهرة ويستبيح حرمتها ويفزع أهلها وزوّارها، وهي التي يأمن فيها حتى الحيوانات والطيور على حياتهم ولا يتعرّض لهم أحد أو يمسّهم في سكينتهم وحركتهم .
غريب جدّا أن يصدر كل هذا الإجرام والغباء باسم الدين، والدين براء منهم تماماً، براء ممن يستبيحون، ما يستبيحون من معصوم دمهم ومالهم وعرضهم ومقدّساتهم على هذا النحو الفاجر والفجّ الذي يستدعي التصدّي له بكل قوّة ومنع فتنته وغلوائه، وقطع الطريق على استغلاله للإساءة إلى أرض الحرمين الشريفين، حفظها الله من كيد الكائدين ومكر الليل والنهار .
سانحة :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهُمَّ إِنَّ إِبراهيمَ حرَّمَ مَكَّةَ فجعلها حَرَماً، وإِنِّي حَرَّمْتُ المدينَةَ حرامًا ما بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا؛ أَنْ لاَ يُهْرَاقَ فيها دَمٌ، ولاَ يُحْمَلَ فيها سِلاَحٌ لِقتَال، وَلاَ تُخْبَطَ فيها شَجَرَةٌ إِلاَّ لِعَلْف".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.