صناعة الديمقراطية .. المشرِّع والقاضي

كلما تعاملت المجتمعات البشرية بعقلانية ورشادة مع مصالحها العامة، واعتمدت قيم العدل والمساواة والحرية والتقدم المتصالح مع الطبيعة وغير المضطهد للآخر كغاياتها الكبرى، كلما سعت إلى فك الاشتباك بين التناقضات التي يطرحها في الواقع المعاش

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/02 الساعة 01:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/02 الساعة 01:27 بتوقيت غرينتش

كلما تعاملت المجتمعات البشرية بعقلانية ورشادة مع مصالحها العامة، واعتمدت قيم العدل والمساواة والحرية والتقدم المتصالح مع الطبيعة وغير المضطهد للآخر كغاياتها الكبرى، كلما سعت إلى فك الاشتباك بين التناقضات التي يطرحها في الواقع المعاش تداخل معاني ومضامين بعض المصالح العامة. في هذا الصدد، يثير التداخل بين مفهومي إدارة العدالة وحرية التعبير عن الرأي الكثير من التناقضات التي تهتم بتنظيمها العهود الدولية لحقوق الإنسان وكذلك دساتير وقوانين المجتمعات الديمقراطية وأحكام المحاكم بها.

تتناول المادة رقم 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ضمانات العدالة والتمكين لإدارتها..

"الناس جميعاً سواء أمام القضاء. ومن حق كل فرد، لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في أية دعوى مدنية، أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم القانون. ويجوز منع الصحافة والجمهور من حضور المحاكمة كلها أو بعضها لدواعي الآداب العامة أو النظام العام أو الأمن القومي في مجتمع ديمقراطي، أو لمقتضيات حرمة الحياة الخاصة لأطراف الدعوى، أو في أدنى الحدود التي تراها المحكمة ضرورية حين يكون من شأن العلنية في بعض الظروف الاستثنائية أن تخل بمصلحة العدالة"؛ هكذا جاء النص المهموم بحق الأفراد في التقاضي العادل.

أما المادة رقم 19 من ذات العهد الدولي، فتنص على أن لكل فرد "الحق في اعتناق الرأي دون تدخل، والحق في التعبير الحر عن الرأي"، وهو ما يشتمل على حرية البحث عن المعلومات والأفكار وحرية الحصول عليها ونشرها. وتنص المادة 19 أيضاً على أن ممارسة هذه الحقوق ترتبط بواجبات ومسؤوليات خاصة، ولذلك قد يفرض عليها بعض القيود التي ينبغي النص عليها قانوناً والمتعلقة إما باحترام حقوق الأفراد الآخرين وسمعتهم أو بحماية الأمن القومي والنظام العام.

تدلل قراءة مضمون المادتين السابقتين معاً على أن التمكين للعدالة وإدارتها يفرض شيئاً من تقييد حرية التعبير عن الرأي يتصل "بحقوق الأفراد الآخرين"، ومن بين هذه الحقوق الحق في محاكمة عادلة. وقد تعددت النصوص الدستورية والقانونية التي صاغها المشرعون وأحكام المحاكم التي أصدرها القضاة في المجتمعات الديمقراطية، واتجهت إلى تنظيم العلاقة بين مفهومي العدالة والحرية من خلال التركيز على قاعدتين قانونيتين وفلسفيتين أساسيتين.

أولاً: الحق في التعبير الحر عن الرأي ينتهي عند حدود الإخلال بحق الأفراد الآخرين في صون سمعتهم وحرياتهم الشخصية، وكذلك عند حدود الإخلال بحق الأفراد في الحصول على محاكمات عادلة، وحق أعضاء الهيئات القضائية في أن لا تناوئ سلطات المحاكم داخل قاعاتها لكي لا تعوق إدارة العدالة أو يتعرض البعض للقضاة بالانتقاد والتجريح الشخصيين على نحو يهدم الثقة العامة في القضاء.

ثانياً: الحق في التعبير الحر عن الرأي يضمن للأفراد حق تناول أحكام القضاء ذات الصلة بقضايا رأي عام بالتعليق والتساؤل والتفنيد والتقييم، شريطة عدم التورط في التعرض للهيات القضائية على نحو مشخصن.

قانونيًّا وفلسفيًّا، يستند الأمر هنا إلى المصلحة العامة المتمثلة في تمكين الرأي العام من التعرف على وجهات نظر متعددة بشأن قضايا تشغل الناس، وإلى المصلحة العامة المتمثلة أيضاً في تمكين المواطن من ممارسة حقه الأصيل في مراقبة وتقييم وتقويم عمل السلطات العامة، ومن بينها السلطة القضائية.

قانونيًّا وفلسفيًّا، ينحو المشرِّع والقاضي في المجتمعات الديمقراطية إلى إرساء مبدأ حق المواطن في مراقبة عمل السلطات العامة عبر تمكينه من الحصول الحر على المعلومات والأفكار وتداولها ومن التعبير الحر عن الرأي دون خوف من تعقب أو تهديد أوعقاب.

في النظام القضائي البريطاني، يعد مبدأ "عدم جواز تدخل الأفراد في عمل الهيئات القضائية أثناء نظرها للقضايا وفصلها في المنازعات" مكوناً رئيسيًّا في هذا السياق، ومضمونه هو الحيلولة دون الإخلال بحق الأفراد في محاكمات عادلة وحق القضاة في الحياد والتنزيه عن شبهات الانحياز.

في حكم للقاضي البريطاني الشهير اللورد ديبلوك يعود إلى سبعينيات القرن العشرين، قدم القاضي شرحاً بديعاً للمصلحة العامة التي يشتمل عليها هذا المبدأ؛ "تلزم الإدارة السليمة للعدالة.

أولاً: بتمكين جميع المواطنين من الالتجاء إلى المحاكم الجنائية والمدنية المنشأة وفقاً للدستور لكي تفصل في المنازعات المرتبطة بحقوقهم وواجباتهم. تلزم إدارة العدالة.
ثانياً: بتمكين المواطنين من الحصول على معاملة عادلة من قبل الهيئات القضائية لا انحياز بها لأحد أطراف المنازعات محل النظر ووفقاً لأدلة تم سوقها على نحو يتسق مع الإجراءات القانونية المنصوص عليها. تلزم إدارة العدالة، ثالثا: بحماية المواطنين أطراف المنازعات من تدخل آخرين في عمل الهيئات القضائية أثناء نظر المنازعات، ومن ثم تمكين الهيئات القضائية من العمل في حيدة ووفقاً للقانون".

أما النظام القضائي الأميركي فيقدم "نموذجاً حرياتيًّا" لتنظيم العلاقة بين إدارة العدالة وبين الحق في التعبير الحر عن الرأي، بين صون المصالح العامة ذات الصلة بالنظام الديمقراطي المتمثلة في تمكين الرأي العام من تداول المعلومات والآراء وتمكين الناس من مراقبة عمل السلطات العامة بما فيها السلطة القضائية وبين الحفاظ على الثقة الشعبية في السلطات العامة. لا قيود على حرية التعبير عن الرأي..

تكتسب المشروعية القانونية ما لم تكن في أضيق الحدود، وتتصل على نحو واقعي ومباشر بمصلحة عامة أخرى كعدم تعويق العدالة أو تعطيل عمل السلطة القضائية على سبيل المثال.

وعلى خلاف غيره من نظم قضائية يعمل بها في المجتمعات الديمقراطية، يتيح النظام القضائي الأميركي نشر مواد وآراء عن قضايا جنائية أو مدنية منظورة أمام المحاكم، بل وتوسعت خلال السنوات الماضية وسائل الإعلام ومعها فئات الصحفيين والإعلاميين والسياسيين في تناول عمل المحاكم وتفاصيل القضايا المنظورة أمامها بالتعليق والنشر وطرح الرأي والانحياز إلى أطراف بعينها من بين أطراف المنازعات.

مثل هذا التوسع يقره كل من المشرع والقاضي في الولايات المتحدة الأميركية تغليباً للحق في تداول المعلومات والآراء، وانتصاراً لشرط وجود المجتمع الديمقراطي المتمثل في الحرية وفي مراقبة أداء السلطات العامة. والرهان هو على الفعل "العقلاني" للمواطن الذي لن ينخدع "بانحيازات الإعلام" وعلى "رشادة" الهيئات القضائية (من قضاة ومحلفين) التي يفترض احتفاظها بحيادها بعيداً عن توجهات الرأي العام.

هكذا تدير المجتمعات الرشيدة شؤونها. فتفض الاشتباك بين المصالح العامة، وتوطن لقيمها وغاياتها الكبرى دستوريًّا وقانونيًّا وقضائيًّا. وتصنع من ثم للمواطن والمجتمع والدولة ثقافة تحترم الحق والعدل والمساواة والحرية وتضمن إحداث شيء من التوازن بينها جميعاً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد