تثير عمليات الاعتقال والتوقيف التي تنفذها الحكومة التركية عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة لعدد كبير من العسكريين ورجال الشرطة والقضاة والموظفين المدنيين، انتقادات عربية وغربية حول أحقية الحكومة التركية المنتخبة بالقيام باعتقالات تجاوزت حدود المعقول، مما يوحي بأنها فرصة لتصفية الخصوم، فإذا كانت عمليات التوقيف والإقالات داخل المؤسسة العسكرية مبررة في ظل الخطر المحتمل في القيام بمحاولات انقلابية أخرى، فإن البعض انتقد بشدة توقيف وعزل المدنيين المنتمين لجماعة غولن من أكاديميين ومدرسين وقضاة.
دعنا من ازدواجية الغربيين من إعلان حالة الطوارئ في كل من فرنسا وتركيا رغم أن الأخيرة شهدت انقلاباً عسكرياً دموياً كاد يطيح بمستقبل البلاد، ولنتحدث عن عمليات التطهير والاعتقالات من الناحية الأخلاقية، ومن ناحية ما تقتضيه المصلحة العامة للشعب التركي حماية لحقه في مبدأ الاختيار الحر لمن يحكمه.
حركة غولن أو ما يطلق عليها اسم الكيان الموازي، كانت حتى وقت قريب حليفاً لحكومة حزب التنمية والعدالة، استطاعت الحركة التمدد داخل الدولة، والوصول لمستويات مهمة في الجيش والوزارات، وبدأت تظهر الخلافات بينها وبين الحزب الحاكم بوضوح في ملفات مركزية ومصيرية، وساءت الأمور عندما أصبح للجماعة حلفاء في الخارج، غير راضين عن السياسات الخارجية للعدالة والتنمية من مختلف القضايا الإقليمية والدولية، بمعنى أن هناك تآمراً تكشفت فصوله سابقاً ولاحقاً.
جذور العملية الانقلابية ومحاولات قامت بها جماعة غولن في الأعوام الخمس الماضية:
1 – تمكنت الجماعة عام 2012، عن طريق المدعي العام صدر الدين صاري قايا، من إصدار أمر باعتقال رئيس الاستخبارات العامة هاكان فيدان، بتهمة إجراء اتصالات مع "بي كي كي"؛ للبدء بعملية سلام مع الأكراد، وقد كانت محاولة جماعة غولن هذه عرقلة للمفاوضات التي يجريها، وبهذه العرقلة تخدم مصالح جهات خارجية تريد استمرار المشكلة الكردية.
2- شهد عام 2014 أول محاولة جادة للانقلاب على حكومة التنمية والعدالة؛ حيث قام المدعي العام المنتمي للجماعة بإصدار أوامر اعتقال لـ52 شخصاً، بينهم ثلاثة من أبناء الوزراء في حكومة أردوغان (وزارات الاقتصاد والداخلية والبيئة)، قام بتنفيذ أوامر الاعتقال عناصر من الشرطة تدين بالولاء للجماعة دون عِلم السلطات العليا، بهدف إحراج الحكومة واتهامها بالفساد المالي قبل الانتخابات البلدية.
3- نشرت الصحف التركية في فبراير/شباط 2014 أخباراً عن عمليات تنصت واسعة قامت بها جماعة غولن، لاتصالات هاتفية أجراها أردوغان، ورئيس جهاز الاستخبارات وعدة صحفيين وآلاف الأشخاص من سياسيين ورجال أعمال وإعلاميين من الحكومة والمعارضة على مدى ثلاث سنوات.
أما بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، فأثبتت الأحداث والتحقيقات أن أفراداً في مؤسسات عسكرية وغير عسكرية ضالعون في الانقلاب الفاشل، ونشرت الصحف اعترافات المعاون (يافارجي) لرئيس الأركان التركي، بأنه عضو في التنظيم الموازي، وأكد أنّه دخل إلى امتحان الثانوية العسكرية عام 1989، وأنّ عدداً من عناصر المنظمة قدموا له الأسئلة ليلة الامتحان، وأنه تجسس على كل اتصالات رئاسة الأركان وسلمها لمسؤولين مدنيين في الجماعة، كما عثر على أوراق مع بعض القضاة المنتمين لجماعة غولن فيها خطط ما سوف يتم تنفيذه في حالة نجاح الانقلاب، أي أن هناك تنظيماً سرياً يسعى للسيطرة على الدولة بأساليب غير مشروعة، ويحاول عرقلة السلطة المنتخبة وفرض أجندته عليها، فالتوقيفات الحالية في تركيا هدفها الحسم النهائي، حتى تتأكد الحكومة من انتهاء عصر الانقلابات العسكرية، وهي كسلطة منتخبة من حقها اتخاذ كل الإجراءات ضد الانقلابيين ضمن القانون بعيداً عن أي وازع انتقامي، وهو ما يحدث بالفعل، فحتى كتابة هذه السطور تم الإفراج عن 1200 جندي ممكن شاركوا في الانقلاب بعد أن أثبتت التحقيقات أنهم خدعوا من قادتهم، ولم يتورطوا في إطلاق النار على المتظاهرين، كذلك تم الإفراج عن أحد الصحفيين، أورهان كمال جينكيز بعد احتجازه لمدة ثلاثة أيام.
هل الأتراك يدعمون الحكومة في إجراءات التطهير؟
المؤشرات تقول إن أردوغان يحظى بتأييد واسع من المعارضة لتطهير مؤسسات الدولة من المنتمين للتنظيم الموازي، يقول أحمد هاكان، أشهر الصحفيين المعارضين في تركيا: "إن أهم ما كشفته المحاولة الانقلابية هو خطأ من لم يصدق حديث أردوغان عن وجود خلايا لجماعة غولن في كل مفاصل الدولة مستعدة للقيام بتصرفات انتحارية في أي وقت، وكشفت صحة القول بأن تركيا في حاجة إلى نضال طويل لأجل القضاء على هذه الجماعة"، ورغم الدعم الواسع لعمليات التطهير فإن البعض ضد اعتقال المدنيين منهم، وهم محقون في ذلك، فالانتماء لجماعة غولن ليس جريمة، لكن من حق الدولة التركية أن تتخذ الإجراءات اللازمة لحماية نفسها ضد أي أخطار مقبلة، وفى ضوء ما ترتب على فضيحة وصولهم للمناصب الهامة بطرق غير مشروعة، بالاكتفاء بعزل من يثبت انتماؤه منهم، وإقالتهم من مناصبهم. يؤيد هذا الرأي الكاتب العلماني علي بايرام أوغلو الذي كتب:" لا مفر من تخفيض درجات الموظفين الحكوميين الذين تتوافر حولهم شبهات جدية بأنهم أعضاء في جماعة غولن أو إقالتهم من وظائفهم، لكن هذا المنطق لا يمكن استخدامه في المقاضاة."
انقلاب 15 يوليو/تموز هو أكبر اعتداء شهدته الدولة التركية منذ تأسيسها، ورغم أن الحكومة وأحزاب المعارضة الرئيسية والكتاب الصحفيين المعارضين لأردوغان كلهم يعتقدون أن من قام بالانقلاب هم المنتمون لجماعة غولن، فإن هذا التوافق الوطني داخل تركيا يتم تجاهله في وسائل الإعلام الغربية!! في هذا الصدد، يقول الكاتب مصطفى أيكول إن كثيراً من الصحفيين الغربيين يواصلون الاعتقاد بأن المشكلة الوحيدة في تركيا يجب أن تكون أردوغان.
ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.