تعالي يا عزيزتي.. هاتي يديكِ.. لا تبتعدي عني.. فلن تفرقنا هذه الأمواج..
مع اضمحلال الأمل، مدَّتْ يداً خائرة وأخرى تضم وليدها، قاومت جبروت موجة وطفقت ترضع وليدها آخرَ أنفاس تملأ رئتيها..
في القاع.. التقى ثلاثتهم ثانيةً، داعب فيه الأب شعر ابنه ودمعه يقاوم ملوحة البحر، وقال: يا نبض قلبي سامحني.. لم أستطع أن أوفر لك أبسط حقوقك.. لم أستطع أن أوفر لك الأمان الذي هربنا إليه وأبى أن يستقبلنا..
ربتت زوجته على كتفه وقالت: كفكف دموعك يا عزيزي، لقد حاولنا بكل نفس كان يخرج منا، وقطعنا الزمان لنستقل هذا القارب المتهالك، ولكن شاء القدر بأن يهيئ لنا راحة أبدية..
أخذهم الزوج في أحضانه، أراد أن يدفئهم من برد يلفهم وقال: تدرين يا حبيبتي.. إني حزين على من تركناهم خلفنا.. تحت النار والذل والظلم والجوع والهوان، أترى حالهم تغيرت وغدت أحسن من حالنا.. أم هو حب الحياة أعمى بصيرة البشرية؟
أخرجت آهة ترددت مع الأمواج.. وقالت: كلنا ندفع ضريبة ذنوبنا ودماء من سبقونا، ضريبة عبوديتنا التى اخترناها بإرادتنا، ضريبة الحقيقة التي تاجرنا فيها مقابل لقمة عيش، ضريبة لمن ظلمونا وسلمناهم حبال مشانقنا بأيدينا، ضريبة تربية قطعان الذئاب في منازلنا وحاراتنا..
قال: وأطفالنا.. ما ذنبهم في كل هذا؟
قالت: إنهم في كل حالاتهم ملائكة في السماء، ونحن علينا أن ننتظر على أبوابها الرحمة والرجاء..
فجأة صرخت: اختبأتْ خلفه من وحش القرش يحوم حولهم وكأنه يرقص حول مائدة سقطت عليه من السماء..
رجته قائلة: أرجوك أن تترك فلذة كبدي ينام مرتاحاً بين المرجان والمحار! خذني أنا فلن تكون أقل جوراً ممن رتبوا لنا أسباب لقائنا..
همهم القرش وقال: إنني وصحبي نشكر السماء على موائدها الحافلة، فلا بد أن نحدث بنعمتها، ولكن بما إنكِ رجوتني سأنظر في أمركم بعد أن تخبروني سبب وجودكم في عقر داري..؟
تقدم الزوج وقال: يا صاحب البحر والقاع، سأروي لك الحكاية، كان ياما كان، عربٌ من حديث الزمان، في يوم أصابهم الجنون وأرادوا الحياة، فطرقوا أبوابها بأصواتهم التي تمردت على الكتمان، وتوحدت الأمنيات، وانقلب الظلام إلى نور للحرية، والصحراء غدت جنة فيها زرع وماء سلسبيل..
ولكن فجأةً خرج لنا الظُلم كالمارد من قمقم، فانقشع حلمنا الوردي عن دخانٍ أسود، وغدونا كقطعان الماشية ننتظر صباح العيد ونتتظر قرعة الضحية، جفت المياه، وعم الجفاف يفتك فينا وبأهلينا، صرنا والدواب نتسابق على الحشائش لنسد جوعنا، هدمت فوق رؤوسنا سقوفاً كانت تقينا البرد والحر والذل والحرمان، هِمنا على وجوهنا كوحوش البرية، ولحقنا سراب الحرية في أرض أخرى..
تعلقنا بخيط الحياة الأخير، نتأرجح فيه والأمواج، تماسكنا، دعونا، صلينا، ولكن.. انقطع هذا الخيط وسُلمنا لك كمائدة شهية، أنت وصحبك قد استقبلتمانا دون النظر إلى هواياتنا وديننا وأسمائنا، لن أقول الآن أكثر من نبي الله يونس عندما ابتلعه الحوت.. سبحانك اللهم وبحمدك إني كنت من الظالمين..
نظر القرش إليهم طويلاً فما كان منه إلا أن انحنى وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، فلن أرضى أن أكون أكثر ظلماً من إنسانيتكم، لتنمْ أجسادكم بسلام فأنتم هاهنا بأمان..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.