سأعود إلى العنوان الذي بدأت الكتابة به وأنا في الصف الرابع الابتدائي "الوطن"، لم يكن يخلو أي منهاج لمادة التعبير من هذا العنوان، وكنا نستشهد دائماً بمقولة: حب الوطن من الإيمان، ورغم أننا كنا نرص السطور رصًّا دون وعي ونحن في بلاد الغربة للمعنى الحقيقي لكلمة وطن.
ولكني برغم هذا العمر الطويل، وبرغم هذه المقالات العديدة، إلا أنني أعترف بأني عجزت حتى اللحظة عن وصف المعنى المناسب لكلمة وطن، أو أرض، أو حق، أو بشكل أدق.. المعنى الذي أشعر به تجاه هذه البقعة، ولكنها ربما تظهر في لهفة أبي وشعوره الدائم بالحنين لذكرياته، على الرغم من غربته لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً، وهي ذلك الشعور الذي كان يعتريني حينما ندخل من بوابة معبر رفح، وحتى نصل مدينة رفح وما رسمته التفاصيل في ذاكرتي وأنا طفلة، وهو يشبه بالضبط ذلك الشعور الذي اعتراني حينما ذهبت لزيارة مدينة القدس، ولم أشعر بهذه المشاعر تجاه أي بقعة على وجه الأرض.
مدينة لم أعرفها، ولم أسكنها، وليس لي فيها أهل، ولكنها أبكتني من الأعماق، وشرحت صدري الملبد بأوجاع مختلفة، رؤيتها ليست كأي رؤية وهواؤها ليس كأي هواء، وأرضها ليست كأي أرض، وإني لأشعر الآن بأنهم لو أغمضوا عينيّ، وأدخلوني على أوطان عدة لعرفت وطني من بينها، لماذا؟! كيف؟! لا أعرف!
وحتى لا نبالغ، حب الوطن يختلف من شخص لآخر، فهناك من فرَّقتهم الغربة، وأبعدتهم كثيراً كثيراً لدرجة أنك لا ترى للوطن مكاناً في كلماتهم وتعبيراتهم.
يركضون وراء الجنسيات المختلفة في محاولة لتخليصهم من هذه الجنسية الكرب التي عطلت كل مصالحهم، وإذا عاشوا في بلاد الغربة نسوا لغتهم وعاداتهم وأكلاتهم وقطعوا وصل كل ما له علاقة بجذورهم، وتراهم إذا ذُكر المخيم انكمشوا على أنفسهم، وكأنها أحاديث العار الذي يهربون منه، مع أنها قصة الوجع الملاصق لهذا الوطن، والتي خرج من معاناتها كل أنواع الإبداع والنجاحات والبطولات.
ذلك التنصل من معنى الوطن والوطنية يعكس المعنى الحقيقي للشخصية المهتزة، والتي نجح الاحتلال في سرقة انتماءها الحقيقي، ومَن لا جذور له يصبح فريسة سهلة ليستبدل بجذوره أرخص الجذور وأسوأها!
وقد كان العرب يقولون: (إذا أردتَ أن تعرف الرجل فانظر كيف تحنُّنُه إلى أوطانه، وتشوّقه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه).
ولما أشتاق النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة محل مولده ومنشأه، أنزل الله تعالى عليه قوله (إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد).. إلى مكة، مكة الجرداء، القاحلة، التي لا يوجد فيها ما يشُدُّ، فكيف أصبحتْ عشقاً لسيد الخلق أجمعين؟!
هذا هو الوطن شيء يشدنا يحبنا، نحبه ولا نعرف سبباً لهذا الحب، ولا نحتاج لمن يقول لنا أن نصبر حتى يعود، لأننا سنصبر، أو نرضى حتى ينصرنا الله، لأننا سنرضى، ليس لأننا مؤمنون ومجاهدون ومقاومون، ومنظرون في المحافل، بل لأننا ببساطة خلقنا على عشقه.
هذا الذي يعذبنا وطن، هذا الذي يقهرنا ويغلق أبوابه في وجهنا وطن، هذا الذي يتألم والذي خذلناه وتركناه يسلب منا وطن.
وكما قال مريد البرغوتي "بعض الأوطان هكذا: الدخول إليه صعب، الخروج منه صعب، البقاء فيه صعب وليس لك وطن سواه".
ولن يكون!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.