في عام 1929 التحق سيد قطب بدار العلوم في مبناها القديم بالمبتديان في حي السيدة زينب، ومكانها الآن حديقة دار العلوم. وخلال العام الدراسي الأول نشر مقالة واحدة وست قصائد، كانت المقالة بعنوان "من صور الحياة: الصداقة" (البلاغ الأسبوعي، يناير/كانون الثاني 1930)، وآنذاك حركته ثورة فلسطين وحوادثها الدموية (ثورة البراق، أغسطس/آب 1929، الحائط الذي اغتصبه الصهاينة وسموه بحائط المبكى)، فكتب قصيدته الدالة "إلى البلاد الشقيقة"، وفيها:
عهدٌ على الأيام ألاّ تُهزموا ** فالنصر ينبت حيث يُهراقُ الدمُ
تبغون الاستقلال؟ تلك طريقهُ! ** ولقد أخذتم بالطريق فيممُوا
وهو الجهاد حميةٌ جشّامة ** ما أن تخاف من الردى أو تَحجمُ
ثم لم ينشر شيئاً ربما لوفاة والده ثم مرضه هو نفسه، ولم يكن سيد قطب قوياً صحيح البدن كما قد يتصور البعض، فقد كان ضئيل الجسم ويعاني منذ صغره أمراضاً ما فتئت تتوالى عليه، وكان كثيراً ما يشير في مقالاته إلى الأمراض التي تعاوده وتضطره إلى تجرع كميات كبيرة من الأدوية وحملها معه أينما ذهب!
وفي عام 1931 انتهى عمله مع عبدالقادر حمزة صاحب "البلاغ"، ولا ريب أن فترة عمله تلك، خاصة أنه كان لا يزال طالباً، قد أكسبته بعض التمرس بالصحافة وبكتابة المقالة الصحفية. وقد ظلت علاقته طيبة بعبدالقادر حمزة، وقد عاد للعمل معه فيما بعد، وعندما مات (1941) رثاه سيد قطب شعراً رغم أنه كان كالعادة على "سرير المرض، وممنوع من الجهد والتفكير" (الرسالة، 23 يونيو/حزيران 1941).
وخلال الفرقة الثالثة بدار العلوم نشر قصيدتين في "مجلة أبولو"؛ نشرت الأولى في العدد الثاني (أكتوبر/تشرين الأول 1932) في باب "الشعر الفلسفي"، وفيها يقول:
اطمأن الليلُ إلا من فؤادٍ ** خافقٍ يرجفُ كالطيرِ الجريحْ
مستطارٌ هائمٌ في كل وادٍ * أفما آن له أن يستريـحْ؟
ومن الطريف أن المجلة علقت على القصيدة قائلة: "نشرنا هذه القصيدة معجبين بها وكنا نود أن نعلق عليها من قلمنا بشيء من النقد الأدبي، ولكننا آثرنا عرضها على حضرات القراء ليشاركونا في ذلك، ويهمنا تبيان: الروح الفلسفية فيها، وقيمتها الفنية، مزايا أسلوبها ودلالته بالنسبة لدقائق التعبير، ما هي الشواهد النامة على عصريتها؟ بماذا تفضل الشعر العصري المألوف عامة؟ ثم ما كان من طرازها؟ وأي مظاهر للتجديد فيها؟ وما روعة موسيقاها؟ هل لها نظائر في شعرنا الكلاسيكي؟ ما هي أمارات الشاعرية القوية فيها، وكذلك بالنسبة لسنِّ الشاعر وثقافته؟ وما هي عيوب القصيدة؟ ولعل هذا التوجيه كافٍ لدراستها دراسة أدبية مفيدة، وسننشر في العدد الآتي خير ما يبلغنا من النقد بشرط أن لا يكون مسهباً مملاً".
ولكن المجلة عادت واعتذرت عن نشر ما وصلها حتى تدرسه! ورغم أن هذا لم يحدث فإن هذه الشهادة مهمة جداً، خاصة أنها من إحدى أهم المدارس الشعرية في الأدب العربي الحديث إن لم تكن أهمها. وتكمن أهميتها في تنبيهها للموهبة الشعرية الكبيرة التي تمتع بها سيد قطب منذ بداياته. وهذا التنبيه والترحيب يجعلنا نعده ضمن "شعراء أبولو"، خاصة أن مساهماته في المجلة لم تتوقف؛ ففي العدد الثالث (نوفمبر/تشرين الثاني 1932) نشرت قصيدته "الشعاع الخابي" وفيها:
ها هُنا وادي المنايا والرَّدَى
حيثُ يطوى الضـوءِ فيه والظلامَا!
ها هنا تثوِي الأماني، ها هنا!
في مَهاوي اليأسِ، في كهفِ الفنا
كلُّ شيءٍ هالكٌ، حتى أنا…
ومن الجدير بالذكر أيضاً أن "مجلة أبولو" نشرت في العدد نفسه (ص 234) أول صورة تنشر لسيد قطب في الصحافة عامة!
وكما ترى فإن سيد قطب كان معروفاً في الأوساط الأدبية حتى قبل التحاقه بدار العلوم، وقد زادت شهرته واتضحت مواهبه وهو ما زال طالبا بها. ولذا لم يكن من المستغرب أن يكتب مقدمة لديوان صديقه وزميله عبدالعزيز عتيق (يونيو 1932)، وأن يُلقي في أول العام نفسه محاضرة في دار العلوم بعنوان "مهمة الشاعر في الحياة، وشعراء الجيل الحاضر".
وقد قدمه أستاذه مهدي علام وحفزه على نشر المحاضرة، وكتب لها مقدمة وصف فيها سيد قطب بقوله "يعجبني في كاتب هذه المحاضرة جرأته الحازمة، التي لم تسفه فتصبح تهوراً، ولم تذل فتغدو جبناً.. وتعجبني منه عصبيته البصيرة، وإشادته بذكر الشعراء الناشئين من أمثاله، وهو جد موفق في اختياره لهم.. وفي اختياره من شعر نفسه، وإن ستره تواضعه وراء ستار "شاعر ناشئ". وقصارى القراء أن أقول لهم، إنني أعد سيد قطب مفخرة من مفاخر دار العلوم".
ومن الجدير بالذكر هنا أن تمثل سيد قطب بشعره ونثره سيتكرر في كتبه ودراساته التالية حتى ليعد ملمحاً مميزاً له. وفي محاضرته تلك تحدث سيد قطب عن علاقة الشعر بالفلسفة والفنون الجميلة. ورأى أن الشاعر الحقيق بهذا اللقب له صفتان أساسيتان: أن يكون إحساسه بالحياة أدق وأعمق من الجماهير، وأن يعبر عما يحسه تعبيراً أسمى من تعبير الجماهير. ثم تحدث عن الخيال في الشعر والأساليب الشعرية. وختم بالحديث عن شخصية الشاعر وضرورة وضوحها في شعره، وقال إن "الشاعر يستطيع أن يكون صورة لعصره في الوقت الذي يتحدث فيه عن نفسه وخواطره وخلجاته".
وفي كل هذا تجلى أثر العقاد ومدرسته واضحاً جلياً، فنجده يدعو إلى اتباع مبادئ مدرسة الديوان، خاصة ضرورة الوحدة العضوية للقصيدة، وأنها وحدة الشعر وليس البيت الشعري المفرد. وقد اعترف سيد قطب في مقدمته بتأثره بأستاذه العقاد وباقتناعه بالمبادئ الشعرية التي يدعو إليها، وبأنه يدافع عن اقتناعه هذا "كما يدافع كل مؤمن عن عقيدته"! وفي هذا بالطبع ما يعلل قسوته على شوقي والرافعي.
وفي المحاضرة تبرز لديه -في هذا الوقت المبكر- روح النقد الصدامي للمجتمع، فعندما يعلق على ملمح الحيرة والشكوى الواضح في النماذج التي اختارها للشعراء الشباب، يقول وكأن روح النبوءة قد تلبثته: "هم -الشعراء الشباب- صورة من النفسية المصرية العامة في هذه الفترة. فترة الانتقال والحيرة والاصطدام في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الاصطدام الذي تخيب فيه الآمال، ثم تبدأ في الانتعاش، ثم تصطدم من جديد! مدوا بأبصاركم في كل نواحي الحياة المصرية.
ألا ترون التصادم بين القوى الناشئة والظروف المحيطة بها، التي تناوئها مناوأة قاسية؟ ألا تسمعون الصيحات داوية بالألم والاستنكار من كل جانب؟ فعلامَ إذن لا يكون كذلك الشعر، وهو أدق معبر عن الإحساس الدفين؟ علام يغرد الشعراء بأناشيد الفرح والمراح، وكيف تدب روح النشاط الطروب في الفنون؟ أنتصرنا في موقعة حربية على جيوش الأعداء؟ فيغني الجيش والشعب أناشيد الظفر والسرور؟ أفتحنا العالم فتحاً جديداً؟ أحصلنا على استقلالنا المغصوب؟ أنتنفس بحرية في أي جو من الأجواء؟ ألنا عظمة صناعية على الأقل نتغنى بآثارها؟ ألنا عظمة علمية نمتدح بمزاياها؟ ودع هذا كله.
أفلنا فقط سياسة تعليمية رشيدة! وهذا أبسط الشؤون؟! كل ما في البلد جدير بالشكوى، وكل ما فيه يلذع بالألم. وأن التألم والشكاة لدليل على عدم الرضا، ودليل السعي لتغيير هذه الحال، وتلك عدتنا للمستقبل، وأملنا الوحيد للإصلاح المنشود".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.