ما بعد “داعش”.. تحديات الوجود والهوية أمام العرب السُّنة في الموصل

فكان هذا المناخ المشحون بالطائفية مناسباً جداً لظهور وانتعاش التنظيمات الإسلاموية المسلحة المتطرفة مثل أنصار السنة والقاعدة وتنظيم الخلافة، ولم تبذل هذه التنظيمات جهداً كبيراً في استقطاب قطاع واسع من أبناء المدينة من الطائفة السنية، خاصة الذين ينحدرون من أصول قروية بعد أن وجدتهم معبأين بمشاعر الحقد والثأر ضد سلطة عاملتهم بقسوة شديدة.

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/05 الساعة 05:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/05 الساعة 05:37 بتوقيت غرينتش

لن تكون معركة تحرير الموصل كبقية المعارك التي سبق أن خاضتها القوات العسكرية العراقية وميليشيات الحشد الشعبي المتحالفة معها ضد تنظيم الخلافة (داعش)، سواء في ديالى أو الأنبار أو صلاح الدين؛ حيث المواجهة هنا ستكون صعبة بكل المقاييس، كلما اقتربت المسافة من حدود مركز المدينة، حيث ستعلو سحب الدخان الكثيفة السواد؛ لتختلط أوراق اللعب مع بعضها بين أيدي اللاعبين مثلما ستختلط الدروب التي تؤدي إلى أحياء المدينة حتى تضيع منها معالمها؛ لتبدو كما لو أنها متاهة أمام المتقاتلين عليها.

قساوة المعركة بوجهَيها العسكري والسياسي تعود إلى سعة مساحة مركز مدينة الموصل، وإلى الكثافة السكانية العالية التي يصل تعدادها إلى أكثر من مليونَي نسمة، وهذا ما يزيد من تعقيدها من الناحية اللوجيستية، خاصة أن نهر دجلة يشطر المدينة إلى قسمين: ساحل أيمن، وساحل أيسر، ويرتبط الساحلان بخمسة جسور كلها مهددة بالنسف والتفجير من قِبل تنظيم الخلافة في لحظة من لحظات المعركة.

معركة تحرير الموصل لن تكتسب أهميتها؛ لكونها عاصمة دولة الخلافة، كما سبق له أن أعلنها أبو بكر البغدادي من على منبر الجامع الكبير بتاريخ 5 يوليو/تموز 2014، إنما تكمن أهميتها فيما يحمله تاريخها المعاصر من دلالات وامتدادات تلقي بظلالها الكثيفة على حاضر ومستقبل المدينة، ويبدأ هذا التاريخ من اللحظة التي انتهت فيها الحرب العالمية الأولى، وأمست فيها الموصل من حصة العراق، بعد أن حاولت الدولة العثمانية الاحتفاظ بها واعتبارها جزءاً من ممتلكاتها، بعد أن كانت قد خسرت معظم مستعمراتها في تلك الحرب، وما زالت حتى هذه اللحظة تحتفظ بأهميتها في ذاكرة الساسة الأتراك، ولم تطوَ صفحتها من ملفاتهم، ولا يبدو أنهم على قدر كافٍ من الاستعداد للتخلي عن فكرة استعادتها رغم تقادم السنين وتبدل الحكومات التركية.

إن الأتراك يرتبطون بعلاقات وثيقة جداً مع قوى وزعامات اجتماعية وسياسية موصلية تمتد جذورها عميقاً إلى أيام الدولة العثمانية؛ حيث كانت التعاملات التجارية على درجة عالية من الاتساع والعمق ما بين أثرياء وتجار الموصل وأقرانهم الأتراك، وترتفع درجة العلاقة المجتمعية إلى مستوى من الخصوصية مع مجتمع مدينة "ماردين" التركية وتجارها، وسيفاجأ أي عراقي من غير الموصليين عندما يجد سكان هذه المدينة يتحدثون بلهجة قريبة جداً من لهجة أهل الموصل، حتى يكاد من الصعب التمييز بينهما، وكانت العلاقات التجارية والاجتماعية ما بين المدينتين قد وصلت خلال القرون الماضية من المتانة إلى حد المصاهرة ما بين عوائل ماردينية وموصلية.

ربما العلاقة ما بين الموصل وماردين نجدها في كثير من صورها الاجتماعية أكبر بكثير من تلك التي ارتبط بها تجار الموصل مع بقية التجار في مدن العراق على الأقل حتى نهاية العقد الخامس من القرن العشرين.

من هنا، يمكن قراءة الدوافع التي جعلت طبقة التجار والأثرياء في مدينة الموصل تقف إلى جانب ضم المدينة إلى تركيا بعد الحرب العالمية الأولى، كما هو الحال مع عائلة آل النجيفي، وهي من العوائل الثرية؛ حيث طالب جد محافظ نينوى الأسبق أثيل النجيفي السلطة العثمانية بأن تضم الموصل إلى سلطتها، وكان ذلك عام 1925 أثناء احتدام الجدل الرسمي والشعبي ما بين بغداد وإسطنبول، حول مسألة إجراء استفتاء شعبي يحسم عائدية المدينة، إما إلى العراق، أو إلى تركيا.

إضافة إلى هذا العامل التاريخي، فإن العلاقة ما بين تركيا وبعض القوى السياسية والاجتماعية الموصلية بدأت تستمد جرعة قوية لصالح استمرارها واتساعها، من خلال استمرار الأخطاء الجسيمة التي باتت ترتكبها الحكومة العراقية بزعامة التحالف الوطني الشيعي بعد عام 2003، والتي اتسمت بارتفاع وتيرة أساليب العنف والقسوة الطائفية، إضافة إلى الاعتقالات العشوائية ضد العرب السُّنة من سكان مدينة الموصل، خاصة خلال فترة حكم نوري المالكي التي امتدت لثمانية أعوام، حتى إن تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش لعام 2010 كان قد تطرق بشكل تفصيلي إلى ما تعرض له أكثر من 400 معتقل من العرب السنة في سجن مطار المثنى من عمليات تعذيب وحشية، وصلت إلى حد إجبارهم على أن يغتصبوا بعضهم البعض، حسب التقرير.

ويمكن القول إن سجون السلطة والميليشيات وهي كثيرة جداً، سواء المعلنة منها أو السرية، قد امتلأت بهم وحدهم دون غيرهم من أبناء الأقليات والطوائف الأخرى، علماً بأن عملية اختيار جميع القادة المسؤولين عن الأجهزة العسكرية والأمنية في مدينة الموصل كانت تتم من قِبل بغداد، وعادة ما كان يتم اختيارهم لهذه المهمة بناءً على انتمائهم المذهبي، بمعنى أن جميعهم من الطائفة الشيعية، وأن غالبية عناصر هذه الأجهزة كانوا ينتمون إلى ميليشيات طائفية قبل أن يتم دمجهم في صفوف الأجهزة الأمنية والعسكرية، حسب القرار رقم 91 الصادر عام 2003 من قِبل الحاكم العسكري الأميركي بول بريمر.

من هنا يمكن تفسير صور العنف المفرط الذي شهدته الموصل بحق أبنائها؛ حيث كان ينظر إليهم انطلاقاً من رؤية مذهبية من قِبل الأحزاب الإسلاموية الشيعية الممسكة بعصا السلطة على أنهم من أتباع النظام السابق، خصوصاً أن النسبة الأكبر من قادة الجيش العراقي والضباط الصغار والطيارين الأكفاء الذين شاركوا في الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988)كانوا من مدينة الموصل.

فكان هذا المناخ المشحون بالطائفية مناسباً جداً لظهور وانتعاش التنظيمات الإسلاموية المسلحة المتطرفة مثل أنصار السنة والقاعدة وتنظيم الخلافة، ولم تبذل هذه التنظيمات جهداً كبيراً في استقطاب قطاع واسع من أبناء المدينة من الطائفة السنية، خاصة الذين ينحدرون من أصول قروية بعد أن وجدتهم معبأين بمشاعر الحقد والثأر ضد سلطة عاملتهم بقسوة شديدة.

بناء على هذه الظروف المعقدة واللاإنسانية التي تتحملها أحزاب السلطة لا يمكن الاستهانة أو التقليل من أهمية وجود تيار قوي مجتمعي وسياسي في داخل مدينة الموصل بين العرب السنة، يدعو فيه أنصاره إلى أي صيغة من صيغ النأي عن سلطة بغداد، خلاصاً من علاقة سيئة معها باتت تفرضها عليهم، قد تأخذ هذه الصيغة لديهم شكل إقليم في أقرب صورة واقعية لها، أو الانفصال في أبعد صورة لها، وجميع الصيغ باتت مطروحة وبقوة هذه الأيام، ضمن إطار هذه العلاقة التي يتم تداولها بين أوساط الفعاليات المجتمعية والسياسية الموصلية، طالما لا يوجد في الأفق أية مؤشرات تفيد بأن هنالك تغييراً ملموساً يمكن أن يطرأ في منظومة السلطة الأيديولوجية وممارساتها القمعية تجاه العرب السنة.

ثم جاءت عملية تحرير الموصل وما صاحب الاستعداد لها من شعارات طائفية أطلقها كثير من قادة الحشد الشعبي؛ حيث اعتبروا فيها معركتهم في الموصل ما هي إلا تصفية حساب مع أحفاد قتلة الحسين، فكان لتلك التصريحات والشعارات وقع سيئ جداً على العرب السنة، خاصة أنها ترافقت مع تقارير صحفية واستخباراتية نشرتها كثير من الصحف والوكالات الدولية، كلها كانت تتحدث عن عزم الحشد الشعبي الوصول إلى عدد من مناطق الموصل، أبرزها قضاء تلعفر الذي يقطنه خليط من التركمان الشيعة والسنة بهدف السيطرة عليه، وإحداث تغيير ديموغرافي فيه لصالح التركمان الشيعة، وليكون بالتالي ممراً برياً من خلاله تصل قوافل السلاح والميليشيات إلى الأراضي السورية دعماً لنظام بشار الأسد؛ حيث يبعد القضاء عن الحدود السورية العراقية مسافة تصل إلى 60 كم.

من جانبها، فإن أنقرة تحاول أن تستثمر لصالحها سيئات العلاقة التي أنتجتها سياسة بغداد مع العرب السنة في الموصل لتحقيق أهدافها التاريخية وتوسيع مجالها الحيوي.

بذلك تكون بغداد قد وفَّرت كل المقدمات؛ لكي لا يطمئن إليها أبناؤها من العرب السنة في الموصل، بعد أن جردتهم سياساتها الطائفية من مصداقية انتمائهم لوطنهم ووضعتهم ما بين مطرقة داعش وسندان الميليشيات.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد