– عنه.. الأول
– أنت ستعرف أنه ثائر على كل شيء حين تراه، ثائر كما يرسمونه في الجرائد وكما يظهرونه في مسلسلات عادل إمام، الشعر الذي تظن أن المشط لا يقربه، العين العسلية كثيرة الحركة، يختلط فيها مزيج فريد من الغضب والمكر الطفولي وبراءة من لم يختبر جانباً كبيراً من قبح العالم بعد، شال فلسطين الذي يصر على ألا يخلعه.. لا تعلم لأنه مؤمن فعلاً بالقضية أم "ليكتمل اللوك"؟ الصوت الجهوري القوي، مفعم بالحياة والغضب.. وتقدير الجمال أيضاً، الوحيد الذي لن تغضب أي أنثى من غزله، يتحدث عن "البنات الحلوة" كما يتحدث بالضبط عن لوحة فنية أو أغنية لطيفة، كان في الصف الأول..
كان دائماً في الصف الأول -حتى يوم 25 يناير/كانون الثاني 2011 كان الأول، يطغى صوته الجهوري على الأصوات المجاورة، أحياناً كان يهتف هو ويتبعه الآخرون، وحين لا يهتف فهو يتطوع بتنظيم كل شيء ولا يكفّ عن الحركة، يحدثك عن أسرته الإخوانية ونشأته الدينية، وكيف عند السادسة عشرة قرر هو أن يسلك طريقاً مختلفاً تماماً، تنصب الخيم ليلاً ولا تعلم له مكاناً محدداً، ينطلق من خيمة لأخرى.. يغازل ويشرح ويسب ويتكلم عن أحلامه اليسارية وعن بيته ويضحك وتحتشد الدموع في عينيه، إعصار لا يهدأ، قابلته قريباً.. لم يعد الشال موجوداً.. ولا الشعر.. ولا لمعة العينين.. أطفأها الخمر والحشيش ومشتقاته، الوسيلة التي اختارها للهروب، تحدث قليلاً.. تحول غضبه إلى حقد عميق.. حقد حتى على إله الكون، كفر بكل شيء من كل قلبه.. كما آمن بكل شيء قبلاً من كل قلبه.
– عنها..
العينان المندهشتان دوماً، الضحكة التي ترج المكان رجاً، الشعر الطويل على هيئة ذيل الحصان دائماً وأبداً.. الحديث الذي لا يخلو من أسماء كتب ومن نماذج البلاد التي تحررت، ومن الشعر والموسيقى، تهتف وتكاد ترى الأدرينالين في الجو من حولها من فرط الحماس، حين اشتعال الموقف تجري بسرعة لا يوحي بها شكلها الرقيق، تقف في وسط كل القلق تضحك، وكأنها لا تدرك تماماً الخطر، وإن أدركته فلا تخشاه، تسمع صوتها عالياً وغضبها الطفولي الذي لا يأخذه أحد بجدية، فتعرف أنها تناقش منكراً للثورة أو متشائماً، تقنعه بها أو تهديه الأمل.
لعلك لو رأيتها الآن لن تعرفها، شعرها القصير؛ لأنه من الأسهل الاهتمام به، حل مكان ذيل الحصان الطويل، فقدت عيناها الدهشة، تحولت ضحكتها لنصف ضحكة عصبية قصيرة، لعلها ستحكي لك عن زيارتها المتكررة للطبيب النفسي، عن قوله لها: "يخيل لي أن كل حماسك وطاقتك انتهت في تلك السنة، فلم يعد لديك ما يكفي لمواجهة العالم"، لعلها ستحكي لك عن دواء الاكتئاب الذي تزيد جرعته تدريجياً، ولعلك ستلاحظ تهدج صوتها الذي ستخفيه بنصف الضحكة العصبية القصيرة.
– عنه.. الثاني
– "ده بيقفل زرار القميص اللي فوق"، دائماً ما يقولها أصدقاؤه حين الحديث عنه للتدليل على مدى براءته، وسذاجته في قول آخر، ستعرف أنه له خلفية إسلامية ما فور أن تراه، اللحية التي لا تطلق ولا تحلق.. بل هي بينَ بينَ، لا هو بالخجل الشديد الذي يمنعه من الحديث ولا بالجرأة التي تدفعه للمبادرة.. بل هو بينَ بينَ، لن يخرج مع فتاة لكن يحادثها في مكان العمل وفي المظاهرات فقط.. بينَ بينَ، لم يكرهه أحد، كان من النماذج القليلة التي لم يمنعها انتماؤها من الثورة من البداية للنهاية، ولم توجهه ميوله بعيداً عن الحق في أي مرحلة.
كان دوماً حاضراً.. في التحرير، وبعدها في محمد محمود، وبعدها في رابعة، يومها لم يمت.. رغم أنه شاهد الموت ولمسه واحتضنه، ليته فعل، يقضي الآن السنة الثانية من الـ25 عاماً التي حكم عليه بها لسبب لا يعلمه هو.. ولا يعلمه أحد غالباً إلا الله، لو زرته يوماً في زنزانته، فلن يفوتك ملاحظة أن لحيته لم تعد مضبوطة بعناية لتكون "بينَ بينَ"، بل متروكة بإهمال مرهق، ولن يفوتك أيضاً الهالات السوداء تحت عينيه، لم يعد ذات الشخص الذي يغلق زر قميصه العلوي.
– عنها.. الثانية
كانت دائماً حاضرة، لم يكن من السهل ملاحظتها، لها ذلك الحضور الهادئ البعيد عن الصخب، في الأغلب تجدها في العيادة الميدانية بحكم دراستها للطب التي لم تكن قد انتهت بعد وقتها، تعمل بدأب وبصبر يصيبك بالدهشة، كنا نسألها مازحين "مش بتحتاجي للنوم؟ البطارية مش بتخلص أبداً"؟، فترد بهدوئها المعتاد أنها نامت كثيراً من قبل وهذه هي الأيام التي تستحق أن تستيقظ لأجلها، تستغرب كيف تقدر تلك الأصابع الرقيقة على معالجة كل هذه الإصابات وتحمل رؤية كل هذا الألم، تثني على عملها فترتبك، وتلمس نظارتها من حين لآخر لمداراة ارتباكها، فقط.. انتهت الحكاية، تنتظر تحولاً درامياً كالقصص السابقة.. في الحقيقة لم يحدث.. انتهت قصتها وللأبد، أو ربما بدأت في عالم آخر يخلو من الرصاص ومن المدرعات التي تقتل الفتيات الرقيقات اللاتي يلمسن نظاراتهن حين الارتباك.
– أربع قصص.. يبدو للناظر من بعيد أن عوالم أبطالها بعيدة تماماً عن بعضها، إلا أنها التقت جميعاً، جمعهم الحلم ثم الخيبة، وكما لخصت أروى صالح كل شيء في حديثها عن جيل ما اشترك في خيبة كبرى أيضاً:
"خصوصية المأساة عند جيل خاض تجربة التمرد، هي أنه مهما كان مصير كل واحد من أبنائه، سواء سار في سكة السلامة، طريق التوبة والإذعان لقوة الأمر الواقع، وحتى إعلان الكفر بكل قيم التمرد القديم، أو سار في طريق الندامة، الانهيار، اعتزال الحياة، المرض النفسي، فإنه شاء أم أبى لا يعود أبداً نفس الشخص الذي قبل أن تبتليه غواية التمرد، لقد مسه الحلم مرة، وستبقى تلاحقه دوماً ذكرى الخطيئة الجميلة، لحظة حرية، خفة، لا تكاد تحتمل لفرط جمالها، تبقى مؤرقة كالضمير، وملهمة ككل لحظة مفعمة بالحياة، والفاعلية مؤلمة"، لقد مسنا الحلم مرة.. مسنا واحتضناه حتى ظننا أنه لن يتركنا أبداً، لن نعود أبداً قبل أن تبتلينا غواية التمرد، ستبقى دائماً تلاحقنا ذكرى الخطيئة الجميلة.. الثورة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.