نشرت جانين دي جيوفاني، مراسلة الحرب في حلب منذ سنة 2011، كتاباً تحت عنوان "في اليوم الذي قرعوا فيه أبوابنا"؛ تحدثت فيه عن معاناة الشعب السوري.
حققت الصحفية شهرة كبيرة في الولايات المتحدة الأميركية، بسبب معاينتها منذ 25 سنة أكثر الصراعات حدة في العالم، بهدف تسليط الضوء على معاناة المدنيين.
جيوفاني، هي رئيس تحرير مجلة "نيوزويك"، ومختصة في الشرق الأوسط وحائزة جائزة الشجاعة في الصحافة لسنة 2016، التي تقدمها المؤسسة الإعلامية الدولية للمرأة. كما نقلت الصحفية عشرات التقارير من حلب منذ بداية الصراع في سنة 2011، وفق ما جاء في صحيفة Le Figaro.
وأمام المأساة الحالية التي تعيشها المدينة الاستراتيجية، تحدثت الصحفية عن معاناة النساء، والرجال، والأطباء والأمهات، والتي كانت شاهدة عليها خلال الزيارات التي قامت بها إلى مدينة حلب.
ما شعورك -سيدتي- أمام المأساة التي تعيشها حلب؟
تخالجني مشاعر كثيرة… فأنا أشعر بالاشمئزاز والحزن والإحباط والغضب. ومن مكاني كصحفية، أرى أن ما يحدث فشل شخصي بالنسبة لي. لقد كرّست حياتي منذ 25 سنة للإبلاغ عن جرائم الحرب في سيراليون، والبوسنة، والشيشان، ولتوعية الضمائر بهدف ألا تتكرر هذه الجرائم في حق الإنسانية مرة أخرى.
إلا أن كل هذا العمل لم يجدِ أيَّ نفع؛ لأن هذه المأساة تكررت مرة أخرى في حلب، ولذلك أشعر بأنني عاجزة. وفي الوقت نفسه، ليست لدي سوى رغبة واحدة، وهي أن أعود مرة أخرى إلى نقل شهادات حية حول معاناة المدنيين، ونقل صمودهم أمام القسوة والذلّ.
خلال رحلتك إلى حلب، من المؤكد أنك كنت شاهد عيان على التغيير الذي عرفته المدينة؟
كانت حلب مدينة مزدهرة وعصرية، وغنية بتاريخ عريق يبلغ عمره قرابة 7 آلاف سنة ويرتادها أثرياء باريس. ومنذ بداية الصراع، جمعتُ قصص الأطباء والموسيقيين والطلاب أو ربات البيوت الذين وصفوا النسق السريع لانهيار حياتهم اليومية.
فجأة، انقطعت المياه من الحنفيات، وأغلقت البنوك أبوابها، وتوقفت شاحنات جمع القمامة عن التجوال في المدينة. كما أصبح السكان غير قادرين على الذهاب إلى المقهى أو التجول في المدينة؛ خوفاً من أن تصيبهم نيران المدافع. ثم أصبحت السوق هدف القناصة، كما وُضعت حواجز في شوارع المدينة. وقدمت الطائرات الروسية إلى سماء المدينة، وأصبحت تزورها كل يوم في التوقيت نفسه، في الصباح أو في آخر النهار. وبهذه الطريقة، غمرت المدينة المظلمة حالة من الفوضى.
وكيف كان يمضي الوقت؟
في حلب، يمر الوقت ببطء؛ إذ إنه في بعض الأحيان تبدو الدقيقة لا نهاية لها، كما لو أن الغد لن يأتي أبداً. الحرب مملة جداً، كما أن الانتظار فيها لا نهاية له. لا يمكننا القراءة أو حتى مشاهدة التلفاز؛ لأن الكهرباء تنقطع دائماً. كما أن سكان حلب أصبحوا غير قادرين على رؤية الأصدقاء بسبب الحواجز والقناصة والقصف المستمر على المدنيين.
ومن جهة أخرى، فإن السكان متمسكون بالحياة، مثل هذه الأم التي تشغل نفسها بتعليم صغارها، أو هذا الميكانيكي الذي تحول إلى خباز بسبب الصراع. إلا أن هذا الرجل تلقى تهديدات بالتعذيب والقتل من النظام في حال واصل عمله؛ لأن خبزه يغذي عدداً كبيراً من الأحياء المحاصرة التي تسيطر عليها المعارضة السورية.
ما الشيء الجميل الذي ما زلتِ تحملينه في ذاكرتك عن حلب؟
في يوم ما، جلست فوق سطح أحد المستشفيات التي دمرها القصف السوري، رفقة مجموعة من الأطباء الذين ملّوا من رؤية مشاهد الرعب والدماء. تقاسمنا الأكل بيننا، غنّينا، وضحكنا. كما لعبنا البلياردو، في محاولة منّا لنسيان المشاهد المروعة من حولنا والدمار الذي لحق المدينة، حتى لبضع دقائق.
ما الذي دفعك لتأليف كتاب يتحدث عن مأساة السوريين؟
هذا واجبي، وليس لديّ أي خيار. أنا لست طبيبة أو سياسية أو عضواً في الأمم المتحدة، ولكنني صحفية وكاتبة. وما عليّ فعله، هو التوجه إلى مناطق الحرب، ونقل ما لا نستطيع قوله. كما أنني ألّفت هذا الكتاب لنقول للسوريين: "أنتم لستم وحدكم". كما أني أروي معاناتهم؛ مساندة لهم.
ما تفسيرك لعجز وتقاعس منظمة الأمم المتحدة؟
بالنسبة لي، لقد فقدت الأمم المتحدة مصداقيتها منذ المجازر التي وقعت في سربرنيتشا سنة 1995، وفي رواندا سنة 1994، وسريلانكا في سنة 2009. وكالعادة، فهي ستتحرك من أجل التعاطف والإدانة فقط. وعموماً، فإن النظام في هذه الهيئة عاجز بسبب البيروقراطية التي يعانيها.
ما الفرق بين الحرب في حلب والحروب الأخرى التي شاهدتها؟
في سراييفو أو رواندا، كنا مضطرين إلى نقل تقاريرنا وشهاداتنا عبر الهواتف الفضائية المرتبطة بالأقمار الاصطناعية، أما في حلب فإن الصحفيين ينقلون معاناة المدنيين على عين المكان. كما أن العالم يراقب لأول مرة، الحرب مباشرة، من خلال ما يدوّنه السكّان عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وليتمكن السكان من الخروج من العجز، لم يبقَ أمامهم سوى مواصلة نقل معاناتهم وشهاداتهم. وبالطبع، كلما تعرفنا على وضع السوريين، ونشرت هذه الشهادات على نطاق أوسع، ضمنّا توثيق هذه المأساة وتكذيب الدعاية.
وفي هذه الحالة، يجب أن نأخذ حركة الحقوق المدنية بالولايات المتحدة مثالاً على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان. وجدير بالذكر، أن مجموعة صغيرة من الناس هي التي بادرت بهذه الحركة، وتمكنت من نشرها على نطاق واسع بين صفوف المدنيين.
وفي الختام، أقول إنني "رأيت كثيراً من مشاهد الرعب في حياتي، حتى أصبحت ذاكرتي غير قادرة على استيعاب المزيد. وعلى الرغم من هذا، ما زلت أؤمن بقوة وفاعلية المفاوضات السلمية".
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة Le Figaro الفرنسية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.