بكاء وعويل، أصوات نحيب تدور حولي، هرج ومرج، جموع هائجة كسيل جارف
ما الذي حصل؟ أين أنا؟ ومَن أنا؟ لم أعد أذكر حتى اسمي؟ أحس بدوار..
أحمد؟ حسّان؟ خالد؟ أنا أعرفكم، أرجوكم، قولوا لي من أكون!
لماذا لاتجيبونني؟ هيه.. هل أصابكم الطرش؟ أم أن أصوات البراميل خطفت بسمعكم؟
البراميل؟ قذائف؟ أصوات انفجار؟ حرب؟
نعم، بت أتذكر بعضاً من.. من.. من ماذا؟ نعم، بعضاً من الملحمة؟
مَن هذا الذي تحملونه على الأكتاف؟
أمي؟ أمي؟ ردّي عليّ يا أمي.. لمَ تصرخين؟ لم تنحبين؟ حسن؟! نعم صحيح..
أنا حسن، أنا هنا يا أمي، أنا بخير، اهدئي، أرجوكِ
لم لا يجيبني أحدكم؟ هيه.. أجيبوني!
شام.. شام.. يا صغيرتي.. يا أميرتي.. ردّي عليّ.. توقفي عن البكاء
لمَ تحرقين خديّك الـموردين بدموع تحرقهما كدمعة يتيم.
لماذا ترددين؟ "بابا.. بابا.. بدي بابا"، قولي لها يا أمي، أنا هنا أتجول بينكم
لكن لم تقولوا لي مَن هذا الشّهيد؟
لِمَ تعانقيه يا أمّي؟ لمَ تثكليه؟ لم تُرثيه؟ لم تناديه حسن؟ أنا حسن يا أمي وليس هو، أنا حسن ذو الوجه المقمر كما كنت تقولين، وأردُّ عليك مازحاً: "القرد بعين أمو غزال" فتغضبين، هل تذكرين؟
أما هذا المحمول فوجهه مشوه، يده اليمنى مقطوعة، رأسه مهمشمة، لكن اليسرى.. لحظة…
لماذا يضع هذا الشّهيد خاتمي؟.. أين هي سلمى؟
سلمى.. سلمى.. هل أنت بين هذه الجموع؟
نعم تذكرت..
نعم نعم، كنت هنا منذ قليل، لكن أفكاري مشوشة كمن استفاق من غيبوبة لتوه.
نعم، صحيح، عربة البرتقال هذه كانت لي، خرجتُ بها منذ الصباح متوكلاً على الخالق، وعلى حلاوة البرتقال، قلت لسلمى قبل أن أخرج إنني سأنادي على البرتقال الحلو وأتذكر شفتيها، وكزتني خجلاً ودفعتني نحو الباب.
قالت لي شام: "بابا إذا بعت البرتقال اليوم، لا تنسَ أن تشتري لي جراب جديد، جمّدوا رجلي من الجراب المبخوش" وضحكتُ وهي تريني إصبع قدمها الصغير، الذي أطل برأسه كفأر صغير يلتمس الأمان للفرار بعيداً.
كنت تسبحين يا أمي على سجادة الصلاة، عندما باغتك وعانقتك من الخلف، كما كنت أفعل عندما كنت صغيراً، قلت لك: "يالله، عطيني قضامة بسكر، متل لما كنت صغير" قبلتني وقلت: "سقالله يا أمي، هديك الأيام".
قبّلت يدكِ التي ظهرت عليها تجاعيد السّنين وقلت: "خلص ما عاد بدي، بدي رضاك بس".
كم كانت حانية تلك التي طبعتها بشفتيك المستغفرتين على جبيني المنهك.
لقد كبرت يا أمي، لقد هرمت وشاخت نفسي قبل جسدي، تجعد قلبي قبل وجهي.
إنّها الحرب يا أمي.. إنّها الحرب.
نعم الحرب، الحرب، الحرب، كنت أتحدث معك يا خالد عن الحرب وأنا أنادي:
"عسل يا برتقال"، أترقب المارة ذوي الوجوه الشّاحبة، لعل منهم من يرغب بعسل البرتقال، بعد أن نشرت الحرب المرّ الزعاف في كل مكان.
"آخ يا بلد"!
"تقصد بقايا بلد، أشلاء بلد".. قلتَ لي يا خالد.
مرت سارة طفلة من حارتنا، أسدلت ضفيرتها الذهبيتين على كتفيها كغلين مكسورين، رمقت البرتقال الحلو، بنظرات شوق، أتعبتاني عيناها الذابلتان الحالمتان.
أهديتها برتقالة "تخجل من حلو خديها".. هكذا قلتُ لها.
نعم تذكرت قذيفة، برميل، لا أدري، هوى فوقي واغتال البرتقال.
ها وقد عرفتُ الآن أني المحمول على الأكتاف، أصبحت روحاً تحوم بينكم..
أراقبكم، تغسّلوني، تكفنوني، ترشقون وجهي بالياسمين، هذه وصايا الموتى في هذه البقعة المتجمرة.
لم تختلفون على غسلي، وعلى كفني، وعلى قبلة سلمى الأخيرة.
دعكم مني، أنا أركم من الأعلى، هائمين، متخبطين، مختلفين، متفرقين، متجمعين.
هنا تجهزون نعوتي أنا الشهيد، وهناك من يجهز الإعلان عن الثأر مني أنا الإرهابي.
هنا تُقسمون إنّي أشرب من أنهار الجنّة، وهناك من يستشفي حقده باحتراقي بلهيب الجحيم.
أما أنا فأرى أرواح السماء تنفخ على لهيب الأرض الـمشتعلة، علّها تطفئ نار صرخات وصلت حدود السّماء…
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.