بلا شك رسوم الأراضي هي أكبر قضية محلية اقتصادية مرت على الجيل الجديد من الشباب السعودي. منذ أن قام المخرج الشاب بدر الحمود بنشر فيلمه الشهير "مونوبولي" بدأ الشباب السعودي بمتابعة هذه القضية عن كثب. و لكن، مثلما هنالك في الجيل الأقدم من يعارض هذه الرسوم، هنالك في الجيل الأجدد من يرى فيها ضرراً أكبر من أي فائدة مرجوة. التالي هو عبارة عن ردي لبعض ما رأيت من حجج هؤلاء الشباب لقضية رسوم الأراضي
يقول المغرد محمد الخميس "بسبب #رسوم_الاراضي_البيضاء سيشهد اقتصاد المملكة هجرة لرؤوس اموال وجدت العقار كملاذ امن لحماية الاموال من التضخم"
هذه الحجة مبنية على عدة افتراضات خاطئة جداً برأيي، ولكن حتى و إن صح هذا التنبوء، فلقد أخطأ الكاتب أن ظن أن هذا سبب مقنع لعدم فرض رسوم الأراضي .أولاً، علينا أن نسأل ما الفائدة من أن تبقى كل هذه الأموال على شكل أراضي بيضاء؟ هل هذه الحركة المالية تقوم بأي تنشيط للاقتصاد الفعلي، أو تجلب فائدة اقتصادية حقيقية؟ الجواب بديهياً لا. حفظ التاجر أمواله على شكل أراضي بيضاء ليس له أي فائدة، على عكس حينما يحفظها على شكل سندات أو أسهم تذهب هذه الأموال إلى أيدي تقوم بتشغيلها من أجل تنشيط الاقتصاد الفعلي. غير أن لا توجد فائدة حقيقية من التخلف المالي الذي يكمن في حفظ التجار أموالهم على شكل تراب (ظاهرة غير موجودة في اي دولة متطورة)، إن هذه الحركة العقيمة تودي إلى ضرر هائل فهي تتسبب برفع أسعار الأراضي بشكل كبير. حينما يريد كل تاجر أن يحفظ أمواله على شكل أراضي – لأن ليس عليها أي ضرائب وارتفاع قيمتها فوق معدل ارتفاع التضخم شبه مضمون – ذلك يزيد الطلب على الأراضي بكمية ضخمة و بالتالي ترتفع أسعار الأراضي بطريقة صناعية، و الناتج النهائي هو أسعار لا تعكس القيمة الاقتصادية الحقيقية للأراضي. وأخيراً، إن هجرة هذه الأموال بدلاً من بقائها بشكلها الحالي تعتبر حركة في صالح الاقتصاد السعودي. "هجرة رؤوس أموال" هذه تعتبر استثماراً أجنبيًّا مباشراً Foreign Direct Investment والعوائد من هذه الاستثمارات ترجع لصاحبها الذي يقيم في السعودية.
السابق كله أن افترضنا صحة الإدعاء، أن رسوم الأراضي سوف تتسبب بهجرة كل هذه الأموال للخارج. هنا يفترض القائل أن لا توجد قنوات استثمار في السعودية غير الأراضي، ويستدل بذلك أن الدولة تحفظ أموالها على شكل استثمارات خارجية. أولاً، كون الدولة تحفظ أصول أجنبية لا يعني عدم وجود فرص استثمارية في المملكة، فهذه حركة سائدة تفعلها جميع الدول، أولها الصين التي هي جنة الفرص الاستثمارية، وكذلك الإمارات، التي جذبت في السنة الماضية 12 مليار دولار من الإستثمارات الخارجية. هذا على الرغم من أن الدولة لديها أحد أكبر صناديق الاستثمار السيادي في العالم (نقطة تبطل حجة المعارض بشكل قاطع). لكن حتى لو 70% من الأموال المحفوظة على شكل أراضٍ هاجر بها أهلها، سوف يشهد قطاع الاستثمار في السعودية سيول هائلة آتية من الـ30% الباقية.
يقول الخميس أيضاً: "من يملكون أدوات حل أزمة الإسكان لا يتجاوز عددهم 5 أشخاص يملكون معظم الأراضي البيضاء في المملكة. هؤلاء لم يدفعوا فواتير كهرباء وماء فكيف برسوم؟"
إذاً هنا يعترف الخميس أن المشكلة هي حقاً في احتكار الأراضي، لكن يقول هذا الاحتكار يكمن في يد خمسة أشخاص فقط والدولة ليس لديها القدرة أو الاستعداد على فرض الرسوم عليهم. أولاً، بما أن القرار أتى عبر مجلس الوزراء، الذي يرأسه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله- فهذا يختلف اختلافاً جوهريًّا عن "فواتير الكهرب والماء". صدور القرار من جهة سيادية كهذه، يدل على جدية العزم في فرضها على الجميع لإنهاء التضخم الهائل في قطاع العقار.
لكن كما في النقطة السابقة، لا يصعب بيان خطأ الحجة من افتراضاتها. يفرض الخميس أنه ليس في السعودية سوى عدد قليل جداً من تجار الأراضي، وهذا خاطئ من جميع النواحي، أولها من ناحية بيانات فعلية (فلقد بدأت أسعار العقار بالهبوط من الآن بسبب الإعلان عن قرار رسوم الأراضي)، أو حتى الثقافة السائدة، فلقد أصبح من المعتاد رؤية معلمة تشتري من مالها أرض فقط لتخزنه إلى أن يرتفع سعرها فتبيعه. المشكلة التي تحاول الدولة مواجهتها هي ليست فقط في بعض الأفراد، بل هي في ثقافة مجتمع أصبح يرى أن الأراضي هي أفضل وسائل الاستثمار، ولذلك يضيعوا فرص تنشيط الاقتصاد الفعلي (الاستثمار في الأراضي دون تطويرها لا يُنتج أي فائدة اقتصادية بتاتاً).
يكمل الخميس كاتباً: "عندما يريد مالك الأرض تطويرها يصدم بالفساد الذي يجبره لدفع الرشى، ثم البيروقراطية، ثم التكاليف! ثم يرفض مشروعه! وبعد ذلك يُلام على تركه للأرض".
هنا ببساطة يقولوا أصحاب مخيم "لا للرسوم" أن المشكلة الحقيقية في قطاع العقار السعودي ليس في الاحتكار، لكن في الإجراءات الحكومية في تطوير الأراضي. على الرغم من أن في هذا تعارض واضح مع كلامهم السابق، إلا أننا لن نركز على الخلاف المنطقي في هذه الحجة وسنعاملها بشكل منفصل.
الآن، كما في النقاط السابقة، نبدأ بافتراض صحة كلامهم. إذا صح الكلام، فهنا صاحب الأرض لن يتضرر من رسوم الأراضي. إذا سبب تركه للأرض هو لأنه لم يستطع أن يطورها، فلا سبب له أن يتمسك بأرض لا يستطيع أن يطورها. يبيعها ويترك العبء لغيره. ببساطة رسوم الأراضي لا تغير في البيروقراطية لا سلباً ولا إيجاباً، لذلك ربطها بهذه العملية ربطاً غير منطقي. إذا كان بالفعل لا توجد فرصة لتطوير هذه الأراضي، وكان هذا الأمر معروف، فإن من يشتروا الأراضي أغبياء وليس علينا أن نساعدهم في قراراتهم غير الحكيمة بأن نسمح بارتفاع أسعار الأراضي لكي يتكسبوا بها لاحقاً، كأنهم يتعاملون مع أسهم و Capital gains.
كالمعتاد، كل ما سبق هو افتراض صحة كلام الكاتب. لكن، إذا كانت عملية التطوير في السعودية حقاً شبه مستحيلة، فلا بد من تفسير كل المشاريع العقارية القائمة. لا أحد ينكر أن الإجراءات الحكومية في السعودية صعبة ومتعبة، لكن القول بأنه أصبح من المستحيل للمطور أن ينهي مشاريعه هو ضد ما نراه على أرض الواقع.
أخيراً يكتب الخميس: "ما الرسوم المفروضة إلا امتداد لسلسلة ضرائب ستطال الجميع".
هذه النقطة برأيي أفضل وأصمد النقاط لفرض رسوم الأراضي. فلو قلنا إن الفائدة الوحيدة لرسوم الأراضي هي نقل الثروة من أيدي التجار إلى الحكومة، فهي لوحدها برأيي تبرر فرض الرسوم بغض النظر عن بقية الفوائد المزعومة. أول تبرير أنه بهذه الحركة تقوم الدولة بمواجهة العجز التاريخي في الميزانية الذي أتى نتيجة سقوط أسعار النفط، والتي لن ترجع لمستوياتها الطبيعية في المستقبل القريب. و أفضل مكان لفرض الرسوم هو قطاع الأراضي البيضاء حيث لن تكون محفز عكسي للنشاط الاقتصادي (حيث لا يوجد نشاط اقتصادي فعلي في سوق الأراضي البيضاء). ثانياً، بشكلها الحالي، هذه الرسوم -لنسمها ضرائب حتى- سوف تكون فقط على أصحاب الثروات الهائلة، وبالتالي لن تضر أبناء الطبقة الوسطى. كما أثبت لنا تاريخ المملكة، وتاريخ عدة دول أخرى، في الغالب لا توجد فائدة اقتصادية من أن يحتفظ التجار بكل هذه الأموال، حيث أنهم لم يقوموا بأي عملية استثمارية قوية خلال جميع هذه العقود الماضية. أكبر نشاط اقتصادي يقوم به تاجر سعودي هو فتح بقالة، أو مطعم، أو إذا كان حقاً ريادي أعمال، قام بنسخ نموذج تجاري غربي وتطبيقه في السعودية. عندما تقوم الدولة بأخذ جزء من أموال التجار، هي في الحقيقة تقوم بأخذ أموال كانت ستصرف على رحلات إلى لندن وباريس، وتقوم باستثمارها في البلد عبر وزارة الإسكان وغيرها من الوزارات. لنذكر أن جميع الإنجازات السعودية الضخمة أتت عبر مبادرات حكومية (سابك، أرامكو، كاوست) وذلك شيء يُشهد في دول متطورة، كذلك أغلبية الشركات الكبرى في سنغافورة أسست من قبل الدولة، ونفس المبدأ في فرنسا وألمانيا لكن بدرجة أقل.
لكن، كما قلنا أكثر من مرة، هذا إذا افترضنا صحة كلام المخيم المضاد. فهو الآن يطبق المغالطة المنطقية المعروفة بالمنحدر الزلق "اليوم رسوم على الأراضي، غداً ضرائب على الدخل". فهو أيضاً يوزاي فرض رسوم على سلعة معينة (عمل حكومي ليس بجديد في السعودية) بالضرائب. وليس علينا حتى ذكر أنه لو كانت هذه الرسوم حقاً مراد بها ضرائب، فهي قليلة لدرجة كوميدية. ففي الولايات المتحدة، الضرائب على الربح بالأسهم Capital Gains تقريباً 15%، نسبة طاغية مقارنة بالـ2.5% على الأراضي البيضاء. و أخيراً، علينا أن نتذكر أن كثير من عملاقة علم الاقتصاد، من آدم سمث إلى هنري جورج قد دعموا فكرة الضرائب على الأراضي كنوع من المحفزات الاقتصادية، حيث إن الدخل الريعي الذي ينتج من الأراضي ليس منشط اقتصادي. العلامة الاقتصادي الكبير ميلتون فريدمان (الذي حاز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1976) ذكر عن الموضوع أنه "كل أنواع الضرائب قد ينظر إليها كمحاربة للنشاط الاقتصادي الحر، لكن ما زلنا بحاجة الضرائب.. السؤال هو، أي الضرائب أقل ضرراً؟ في رأيي، أقل الضرائب ضرراً هي الضرائب على الأراضي غير المطورة" (في كتابLand and Taxation )
أخذنا كل نقاط المخيم المضاد على حدة وحللناها كمفردات، ولكن إذا أردنا قطع اليقين في مدى ضعف حججهم، علينا أن نربطهم في بعض. في البداية يقولوا إن سوف تهجر الأموال التي تحفظ على شكل أراضٍ، لكن بعدها يقولون إن في الحقيقية، الكتلة الأكبر من الأراضي البيضاء يمتلكها طبقة لا يمكن للدولة فرض عليها الرسوم. إذاً كيف سوف تهجر الأموال هذه إذا لن يمسها الرسوم؟ بعدها يقولون إن الحل في مشكلة الإسكان في أيدي خمسة أشخاص محتكرين الأراضي البيضاء في المملكة، لكن بعدها يقولون إن المشكلة الحقيقية هي الإجراءات الحكومية. ثم يقولون في الأخير إن هذه عبارة عن بداية ضرائب كأن ليس من حق الحكومة فرض ضرائب (خاصة ضرائب فقط تضر طبقة الأثرياء).
في الأخير علينا أن نوزن الموضوع كالتالي: من يقدم حججاً منطقية اقتصادية أفضل عن الموضوع، الطبقة البرجوازية المالكة للأراضي والتي علمها في الاقتصاد محدود، أم الاقتصاديين والخبراء الحكوميين وأعضاء مجلس الشورى الذين دعموا هذا المشروع للنهاية؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.