وطن العناية المركزة

يقول شكري: "إذا نظرنا إلى مشهد الانفجار.. كل واحد منهم ساهم؛ المرأة حملت معلومات (لمنفذ الهجوم)، والصحفي كانت لديه صورة للرجل، وضابط الأمن كانت لديه معلومات مسبقة، والمحامي كان صديقاً لكل هؤلاء الناس.. إنهم ضحايا لهذا الانهيار، لكنهم أيضاً مسؤولون عنه".

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/19 الساعة 06:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/19 الساعة 06:33 بتوقيت غرينتش

"اخترت أن أظل واقفاً وسط الخرائب كشاهدٍ، لا لأحد غير نفسي أو المستقبل، سأقول يوماً ما، ربما عند مماتي، ربما الآن، تحت هذه الأنقاض، وفي هذه الأوراق: "إنني اخترت أن أعود لوطن تركني ومضى".

الكاتب عز الدين شكري مع شخصياته الروائية الأربع من تحت أنقاض مصر، يرى الواقع القاتم المتفسخ لمجتمعها، ورغم هذه الأنقاض وهذا التفسخ فإنه ما زال يرى الضوء من بين الشقوق وتصل إلى مسامعه أصوات الأمل، لكنه لا يدري كيف الوصول إليها!
ضابط المخابرات العاجز جنسياً، والصحفي الشهير متعدد النزوات النسائية، والمحامية الإسلامية المتبنية لقضايا الحركات الإسلامية الأصولية، والمحامي القبطي المتبني لجميع القضايا السياسية من قضايا الرأي والحريات.

تجد هذه الشخصيات الأربع أنفسها تحت أنقاض مبنى القنصلية المصرية في السودان في أعقاب تفجير انتحاري، ويروي كل منهم -خلال نقطة زمنية مطاطة غارقة في الذكريات- في سرد منفصل طريقه من نقطة التحول الكُبرى في حياته، وصولاً إلى هذا الحصار تحت الركام والأنقاض والجدران الأسمنتية، التي رُغم قسوتها ما زالوا يستطيعون أن يميزوا ضوءاً يشق طريقه بين الأنقاض، وكل ما في الأمر أنهم لا يعرفون كيف يشقون طريقهم إلى الخارج! الوضع في حالة انهيار تام، لكنهم لم يموتوا بعد.

كم كان شكري عبقرياً في نسج خيوط كل شخصية بإحكام رائع ليرسم تلك الصورة الملحمية لحياة كل منهم!

فلكل شخصية من الشخصيات الأربع نقطة تحول كُبرى تبدأ عندها السقوط والانزلاق وفقدان الأمل، وفي خضم الصراعات الداخلية التي تجعلها تخون قناعاتها وتتنازل عن مبادئها التي لطالما تشبثت بها لا رغبة في الربح أو من أجل مصلحة شخصية، ولكن محاولة لتغيير الوضع الراهن لمجتمع تسيطر عليه المصالح الخاصة والضيقة، وتتصادم مع حقوقهم وآمالهم وطموحاتهم، فنقطة التحول عن الضابط أحمد كمال كانت نشوب الخلافات بين قادة الجيش المصري في حرب 73، التي أدت إلى انفتاح واتساع ثغرة الدفرسوار والتي منعت عن مصر فرصة استغلال المكاسب المبكرة لهزيمة إسرائيل.

ويقول: "كل ذلك أصبح غير ذي معنى، لم يعد يهمني، فقدت القدرة على الانفعال.. على الحزن وعلى الفرح سواء، انفجر قلبي داخلي ثم سكن الغبار وانتهى الأمر".

أما الصحفي أشرف فهمي -الصحفي الطموح الذي كان لا يألو جهداً في التصادم من أجل مبادئه وأفكاره فكان انكساره بعد فقدانه لوظيفته كسكرتير للجريدة التي كان يعمل بها على أثر ضجة أثارتها مقالته المناهضة لاتفاقية السلام مع إسرائيل- كان انكساره بذلك نقطة تحوّل في حياته الشخصية ومسيرته المهنية وعلاقته مع الأجهزة الأمنية التي تُمسك بزمام المُجتمع وكل خيوطه وتياراته الفاعلة، حتى أصبح رئيس تحرير متمرساً واعياً لنفس الجريدة يحتك ويتصادم بما يسمح له "البروتكشن" وهو مصدر حمايته هو وجريدته، لكنها بالتأكيد ليست حماية مجانية خيرية بل مبنية على أساس المصالح المشتركة بينهما.

والمحامية داليا الشناوي، ابنة العائلة الأرستقراطية، والمحامي القبطي نشأت غالب، فكانت علاقتها العاطفية التي نمت بينهما في المرحلة الجامعية -ضد الجاذبية بين مسلمة ومسيحي.. ضد تقاليد المجتمع الدينية المسيحية والإسلامية التي ترفض مثل هذه العلاقات- كانت هذه العلاقة العاطفية بينهما هي الطريق إلى نقطة التحول المحورية في حياة كل منهما.. تعجز داليا عن إقناع نشأت أن يتحول إلى الإسلام، ويعجز حاجز المكان والبحر المتوسط -بعد سفر داليا إلى فرنسا لاستكمال دراساتها العليا- يعجز عن وأد هذا الحب المتغلغل فيهما.. وحين التقيا في فرنسا وقعت بينهما علاقة نتج عنها جنين أجهضته داليا دون علم نشأت ثم قطعت علاقتها به تماماً؛ لتتزوج بعد فترة من طبيب مصري كان يدرس في فرنسا، كان ذلك هو المنعطف الحيوي الخطير في حياة كل منهما، الذي استغله الضابط أحمد كمال -ضابط المخابرات الذي يتولى ملف الجماعات الإسلامية الأصولية -استخدمه كورقة ضغط أمنية للسيطرة على المحامية داليا الشناوي بعد أن رفعت دعوى احتساب ضد الصحفي أشرف فهمي- بإيعاز وضغط من الجماعة الإسلامية بسبب تمادي الصحفي في انتقاده للفكر الإسلامي الأصولي – والتي كسبتها أمام نشأت غالب المحامي الموكل من الصحفي.. فداليا الشناوي بالإضافة إلى أنها كانت تتبنى قضايا التيار الإسلامي الأصولي وتدافع عن شبابها، فكانت عضواً في جماعتها رُغم أنها امرأة ورُغم ما تُلاقيه من سخرية واضطهاد من قيادات هذا التيار المتشدد.

النسيج الدرامي لرواية شكري تضع القارئ في موقف تعاطف -أحياناً- مع كل شخصية لكنها لا تبرئهم تماماً، بل تظهرهم مسؤولين ولو جزئياً عن سقوطهم، فكلهم -على اختلاف اتجاهاتهم السياسية واختلاف مصالحهم- كلهم مسؤولون عن الانفجار.

يقول شكري: "إذا نظرنا إلى مشهد الانفجار.. كل واحد منهم ساهم؛ المرأة حملت معلومات (لمنفذ الهجوم)، والصحفي كانت لديه صورة للرجل، وضابط الأمن كانت لديه معلومات مسبقة، والمحامي كان صديقاً لكل هؤلاء الناس.. إنهم ضحايا لهذا الانهيار، لكنهم أيضاً مسؤولون عنه".

ويطرح شكري عدة أسئلة: كيف انهارت الأمور في مصر إلى هذه الدرجة؟ كيف ضربت الفوضى والإهمال وانحدار الكفاءة كل شيء هكذا وبهذه السرعة؟ من الرقابة على الغذاء إلى الفشل في الطب، وتلوث الهواء، والإشعاع في الأغذية، والاستبداد السياسي، والتمييز الديني، والتعذيب، وسيطرة الأمن على الجامعة وبقية مؤسسات المجتمع والدولة، وسيطرة التخلف على مجتمعات الطلبة، والنخبة، والإرهاب الفكري، وتدهور مستوى الثقافة، وانتشار السفه في الصحف والراديو والتلفزيون، وانهيار المرافق العامة، والانحطاط المهني من السباكة إلى التدريس بالجامعة.. كيف حدث كل ذلك وبهذه السرعة؟ فلا يجد الكاتب أي إجابة على هذه التساؤلات.. إلى جانب تساؤله الملحّ على لسان شخصياته الأربع: "نرى الضوء من بين الركام وبإمكاننا أن نسمع صوت الأمل.. ولكن كيف الطريق كيف؟!".

يقول عز الدين شكري في ختام روايته: "اخترت أن أظل هنا، وإن كنت غير فاعل، وإن كنت هامشياً، اخترت أن أظل واقفاً وسط الخرائب، كشاهد، لا لأحد غير نفسي أو المستقبل، سأقول يوماً ما، ربما عند مماتي، ربما الآن، تحت هذه الأنقاض، وفي هذه الأوراق: إنني اخترت أن أعود لوطن تركني ومضى، واخترت أن أظل فيه واقفاً كقصر من قصور الحلمية القديمة، مهجوراً وبلا فائدة، سوى أن يطل بشموخه على واقع تدهور وتداعى، ويا له من اختيار مر لمن رأى كل شيء من البداية وأوجعته عيناه مما رأى!".

تُرى متى تنتهي صلاحية هذه الرواية التي ما زلنا نعايشها؟!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد