تشظي المجتمع السوري إلى أين؟

التدخل الخارجي لصالح النظام أدى لاستباحة سيادته المستباحة أصلاً من طرف إسرائيل، لكنه وبعد الثورة تخلى عن كامل سيادته، لصالح إيران وروسيا والتحالف الدولي وأداته المحلية وحدات الحماية الكردية، حدث هذا بسبب حاجته الماسة للحماية، فقد كان جُلُ هَمّه استرضاء الأطراف التي تضمن بقاءه، فاستهلك شعارات الممانعة والمقاومة، وبذلها رخيصة للجميع عدا الشعب السوري.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/18 الساعة 03:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/18 الساعة 03:22 بتوقيت غرينتش

كلما دخل الصراع في سوريا منعطفاً جديداً وحاسماً، تعزز الفرز والتباين بين شرائح المجتمع السوري، بشقّيه الموالي والمعارض، ففي بداية الثورة كان كثير من المنخرطين في الثورة يخفون أجنداتهم وطموحهم السلطوي أو الانفصالي تحت شعار إسقاط النظام، في حين تشبث الموالون بالسلطة وما حققوه من امتيازات على مدى أكثر من أربعة عقود، وتسلحوا بشعارات المؤامرة الكونية التي تستهدف السيادة والممانعة، التي اختزلوها بشخص بشار، فكان الشعار "الله سوريا بشار وبس"، أما بعد الثورة وتيقنهم من سقوط منظومة الحكم الأقلوي فقد رفعت شعارات في غاية التطرف والإرهاب مثل: "الأسد أو نحرق البلد" ولاحقاً شعار "الجوع أو الركوع".

ما رفعه النظام وحاضنته الشعبية من شعارات متطرفة طبقت بحذافيرها، أثبتت هشاشة وكذب شعارات اللُّحمة الوطنية، والعيش المشترك التي شرعنت حكم الأقلية "النصيرية" لسوريا، وبالتالي كشفت عن مدى الإعاقة الفكرية لدى مكون مجتمعي حاقد، تعامل مع باقي المكونات على أنهم تَبعٌ له في ملكية خاصة لا يمكن التنازل عنها.

مع اشتداد عود الثورة وانتقالها لمحافظات ومدن جديدة، وإصرارها على التغيير، تغولت منظومة الحكم وولغت في دماء السوريين وحرماتهم، فدمرت مدناً وقرى بأكملها، في حين أن الثورة لم تنجح في تحقيق هدفها المتمثل بإسقاطه، فالتكالب كان عظيماً لدرجة استدعت معها قيام تعاون وتحالفات إقليمية – دولية تنسق مسألة تقنين وفرملة الاندفاعة الكبيرة لفصائل المعارضة السورية، والعمل على استقطابها ومصادرة قرارها، وصولاً لإنهائها بدل توحيدها في إطار وطني جامع يراعي هدف إسقاط النظام، والحفاظ على الدولة "الوطن" بكافة مكوناتها العرقية والإثنية.

التدخل الخارجي لصالح النظام أدى لاستباحة سيادته المستباحة أصلاً من طرف إسرائيل، لكنه وبعد الثورة تخلى عن كامل سيادته، لصالح إيران وروسيا والتحالف الدولي وأداته المحلية وحدات الحماية الكردية، حدث هذا بسبب حاجته الماسة للحماية، فقد كان جُلُ هَمّه استرضاء الأطراف التي تضمن بقاءه، فاستهلك شعارات الممانعة والمقاومة، وبذلها رخيصة للجميع عدا الشعب السوري.

في المحصلة ونتيجة لطول أمد الصراع، وما رافقه من اصطفافات، تشكل لدينا فرز مجتمعي وعقدي حتى بين أطياف المعسكر الواحد؛ ليتعزز هذا الفرز ويتغير مع تغير مآلات الصراع، والتي أسهمت في تبديل مواقف فئات وشرائح عديدة، ونقلها من أقصى اليمين لأقصى الشمال أو العكس؛ ليستمر خلط الأوراق وإعادة تشكيل أطياف ومكونات المجتمع مجدداً، وهو ما أنتج مجموعة مكونات جديدة، أسست لها المصالح التي تديرها الأطراف المنخرطة أو المتحكمة في الصراع الدائر، سواء النظام أو دول الإقليم التي تتنافر أجنداتها ومصالحها فيما بينها، لكنها في النهاية تتلاقى مع مصالح اللاعبين الكبار وتخضع لها.

لقد أسس نظام الحكم الأقلوي المتمثل بالأب ووريثه الابن، لنشوء طبقات دينية، وقومية، وسياسية، ومالية متنفذة، ارتبطت مصالحها ارتباطاً عضوياً بالنظام، الذي تلاعب بالمفاهيم والقيم الدينية والمجتمعية، وعزز مفهوم الفساد القائم على النفوذ، جاعلاً من نظامه الشمولي نقطة ارتكاز ومحوراً تدور في فلكه كافة أطياف المجتمع السوري.

بينما عاد البعض لحضن النظام فعلياً، فإن بعض فئات المجتمع السوري المنخرطة في الثورة، بدلت مواقعها من ثائرة منادية بإسقاط النظام إلى مهادنة أو حيادية، وهي خطوة يمكن اعتبارها سكوناً بانتظار مآلات الحروب والتسويات، خاصة مع انخراط معظم الفصائل في لعبة الهدن والمصالحات وما سُمي مفاوضات أستانا برعاية روسيا حليف الأسد الأكثر إجراماً، ولهذا التوجه عرابون كثر يعتقدون أن الشمس لا بد أن تشرق من الشمال حيث موسكو وحربها الصليبية المقدسة.

مجموعة النكسات العسكرية التي تسببت بها فصائل المعارضة بتوجيه من الداعمين، خلفت شعوراً بالإحباط لدى شريحة واسعة من الشعب الثائر، أدت لرد فعل عكسي، جعلها تكفر بالثورة والمعارضة والنظام والعالم كله، حتى إن البعض اتخذ قرار العودة لحضن النظام بناء على هذه المعطيات، وهنا لا بد أن نلحظ أن هذا بالضبط، هو ما سعى له نظام الأسد وما يسمى بالمجتمع الدولي وكثير من أصدقاء الشعب السوري الوهميين، وهي معادلة بسيطة تقوم على مبدأ دع المجرم يقتل كما يشاء وقدم له الحماية فتقبل الضحية بما يقدم لها.

مؤسف أن تتحول مطالب الثورة بالكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية وحرية المعتقد والفكر، لدى البعض لمجرد مطالب بتوفير الماء والكهرباء والإنترنت، فهل بعد هذا إحباط؟

على المقلب الآخر سنجد أن الخسائر الكبيرة في صفوف حاضنة النظام الشعبية قد أدت لتململ واضح، عبّر عنه البعض برفع شعار "بشار بالقصر وأولادنا بالقبر"، لكن هذا التململ لم يصل مرحلة الثورة أو التمرد العلني المؤثر، ولهذا عدة أسباب، أهمها: أن هذه الحاضنة قد أحرقت جسور العودة مع المكون السوري الأكبر وربطت مصيرها بمصير شخص بشار، إضافة للخسائر البشرية الهائلة في صفوف الرجال الذين توزعوا بين قتيل ومقاتل ومعوق.

الشباب أصبح عملة نادرة في معظم مناطق سوريا، سواءً تلك الخاضعة لسيطرة النظام، أو المعارضة، أو حتى الكرد، فهم بين لاجئ ومهاجر أو مقاتل وقتيل، في حين أن كثيراً منهم فرّ إلى الخارج خشية تجنيدهم والزج بهم في القتال لصالح هذا الطرف أو ذاك.

الثورة السورية وما صاحبها من صراع مسلح فرضه النظام بمساعدة دولية إقليمية، كشفت عن الحجم الحقيقي للطائفة النصيرية في سوريا والتي لا يتجاوز عددها المليون ونصف المليون في أحسن الأحوال، لكن كان يجري تضخيم نسبتها لإكساب حكمهم لسوريا شرعية مفقودة، وتماماً كما فعل الأكراد في الشمال؛ حيث إن أعداد السوريين منهم لا تزيد عن نصف مليون، لكن يتم تضخيم الرقم لملايين، وذلك بهدف شرعنة الانفصال وإقامة كانتون كردي لا مقومات حقيقية لوجوده، فحتى وحدات الحماية الكردية تقاتل بمرتزقة كرد أتراك وإيرانيين وعراقيين، وآخرين من جنسيات مختلفة، إضافة لما يتم تجنيده من سوريين عرب رغماً عنهم.

نفس الأمر حصل في العراق، فالشيعة هناك لا يتجاوزون 30% لكن جرى التلاعب بهذه النسب بعد الاحتلال الأميركي، وتجنيس أكثر من مليوني إيراني، إضافة لتهجير أكثر من ستة ملايين عراقي معظمهم من المسلمين السنة، مع الأخذ بعين الاعتبار عدد الضحايا الذي فاق الثلاثة ملايين.

لقد خلق الصراع الدموي الذي غذته أطراف دولية وإقليمية في سوريا واقعاً مأساوياً، تجلى أحد جوانبه في تشظي المجتمع السوري وتشرذمه، حتى بين أفراد المكون العرقي أو الإثني الواحد، الذي فرقته الولاءات الدينية والسياسية والمصالح الفردية والفصائلية والحزبية والانتماءات العشائرية والعائلية.

إن أحد أشنع نتائج الحرب المستعرة منذ ما يقارب السبع سنين هو الأعداد الكبيرة من المهجرين واللاجئين؛ حيث تشير التقديرات لتهجير حوالي 14 مليوناً من السوريين من مناطقهم ما بين لجوء داخلي وخارجي، نصفهم تقريباً غادر سوريا وبدأ رحلة البحث عن مستقبله في دول اللجوء.

اللجوء بدوره أخرج الكبت من نفوس الكثيرين، فظهرت العُقد والأمراض الاجتماعية، وتفتت الأسر، بعض العوائل لم تنتظر الوصول لأماكن الإيواء، بل تفجرت الخلافات وحدث الطلاق فور وصولهم لأرض المطار.

كل المؤشرات تقول بأننا لن ننتظر طويلاً، قبل أن نصل مرحلة التخندق العقدي الكامل، الذي سيكون أبطاله طرفين لا ثالث لهما، خاصة مع تبدد الطيف الرمادي، القابع في منطقة الظل!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد