منذ عامٍ مضى، كان من شأن قتل السفير الروسي في أنقرة على يد رجل شرطة سابق تركي أن يحدِث انفجاراً في العلاقات التركية الروسية بنفس الشكل الذي أعقب إسقاط الطائرةٍ الحربية الروسية بواسطة المقاتلات التركية في نوفمبر/تشرين الثاني 2015.
ولكن قبل تشييع جنازة أندريه كارلوف اليوم الخميس الموافق 22 ديسمبر/كانون الأول، لم تُبدِ روسيا أيَّة نية لاتخاذ موقف ضد تركيا. بل على العكس ذلك، يبدو البلدان في طريقهما نحو تقاربٍ جديد، يُخرج تركيا بعيداً عن دائرة الغرب أكثر من أي وقتٍ مضى، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
ضبط النفس
أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للمرة الأولى أنَّه من الواضح أنَّ القاتل كان تابعاً لفتح الله غولن، المتهم بتدبير الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا منتصف يوليو/تموز 2016. بل إن مؤيدين للرئيس أردوغان يلمحون إلى أنَّ وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) قد تكون متورطةً في مقتل كارلوف.
أرسلت روسيا 18 محقِّقاً إلى أنقرة، لكنَّها في المقابل تقبَّلت تعازيها التي قدَّمها وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، حينما وصل موسكو الثلاثاء، 20 ديسمبر/كانون الأول، من أجل اجتماعٍ مُعدُّ له مسبقاً مع نظيره الروسي سيرغي لافروف.
والسبب في ضبط النفس من جانب روسيا بسيط. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعد سقوط حلب، أصبح في خضم استعراضٍ للقوة؛ ومقتل السفير -رغم فجاعته- لن يثنيه عن المسار الذي اختاره.
ويخطط بوتين، مع تركيا وإيران، لوضع خارطة طريق خاصة به في سوريا؛ بسبب غضبه مما يرى أنَّه فشل أميركا في تحقيق تعهُّداتها بفصل الجهاديين عن المعارضة السورية. فهو يريد أن يستثمر نصره العسكري في تحقيق انتصارٍ دبلوماسي. ويُفتَرَض أن يكون اجتماع الثلاثاء الماضي بين وزراء خارجية تركيا وروسيا وإيران، وإعلان موسكو المُنذِر بتبعات كبرى الذي نتج منه، الخطوة الأولى في إسدال الستار على الحرب الأهلية السورية وفقاً للمعايير الروسية.
وفي هذه المرحلة على الأقل، تُستبعَد دول الخليج، وأوروبا، والولايات المتحدة من العملية. بل وقالت موسكو إنَّ "الحوار متوقِّفٌ الآن مع الولايات المتحدة الأميركية على كل المستويات. لا نتواصل مع بعضنا البعض، وإذا فعلنا يكون على أدنى المستويات".
نجاح صعب
لكن بوتين قد يجد النجاح الدبلوماسي أكثر صعوبةً من النجاح العسكري. ففي المقام الأول يعتمد بوتين على مساعدة تركيا، الداعم الأكثر وفاءً للمعارضة السورية على مدار السنوات الخمس الماضية. وبصرف النظر عن التعاون في مجال الطاقة، أفضل ما يمكنه تقديمه لأردوغان هو ضمان عدم تعزيز الأكراد السوريين على حدود تركيا الجنوبية بأي اتفاق.
لكن تركيا نفسها منقسمةٌ داخلياً. فهناك مجموعةٌ قوية من أصحاب التوجُّهات الأوراسية (أنصار التوجه نحو أوراسيا والاتحاد الأوراسي) حول أردوغان، يريدون تقليص خسائرهم مع الاتحاد الأوروبي بعد سنواتٍ من مقابلة الأوروبيين للأتراك بالرفض وعدم الامتنان لإيواء تركيا ملايين اللاجئين السوريين. بينما يقول آخرون إنَّ أوروبا لا تزال هي الطريق الوحيد الممكن للتحديث الاقتصادي.
وفي موسكو، قال جاويش أوغلو بوضوح إنَّ وقف إطلاق النار في سوريا لا يجب أن يستثني تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وجبهة فتح الشام فقط، بل حزب الله اللبناني كذلك – وهو الذي يقاتل إلى جانب الحكومة. لكن لافروف قال بشكلٍ ضمني إنَّ حزب الله، شأنه شأن روسيا، كان في سوريا بناءً على طلب الحكومة.
وقال بوتين، بشكلٍ ربما جعل استراتيجيته تبدو مبهمةً حتى بالنسبة له، إنَّ مبادرته لحل الأزمة السورية مع تركيا (خارج إطار الأمم المتحدة والولايات المتحدة) صُمِّمت لتكمِّل عملية السلام القائمة التي ترعاها الأمم المتحدة، وليس لتتعارض معها. لكن حركته هذه أثارت عدم ارتياح داخل الأمم المتحدة؛ فقد أعلن المبعوث الخاص بالأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، أنَّه سيدعو إلى محادثاتٍ مُقابلةٍ برعاية الأمم المتحدة تُعقَد في الثامن من فبراير/شباط 2017 في جنيف.
حتى الآن، عانت محادثات الأمم المتحدة من اعتراضات الحكومة السورية على تشكيل وفد المعارضة، ومن دور الأكراد السوريين، وكذلك إذا ما كان ينبغي على الحكومة السورية أن توافق على تنحِّي الرئيس السوري بشار الأسد بطريقةٍ ما في نهاية العملية الانتقالية.
قد يُعقَد اجتماع السلام الاستعراضي الذي يرعاه بوتين في أستانة، عاصمة كازاخستان. واختيار هذه المدينة المستقبلية الغريبة والمُحاطة بأكبر سهل في العالم ليس عشوائياً تماماً؛ إذ لعبت كازاخستان دوراً في محاولة تطبيع العلاقات بين تركيا وروسيا، كونهما أقرب حلفائها.
استضافت المدينة من قبل أعضاءً من المعارضة السورية في محادثاتٍ في مايو/آيار 2015، وأشرفت على جهود وساطة دولية أخرى، بما في ذلك محادثات في 2013 بين إيران ومجموعة (5+1).
وأُطلِقت محادثات مايو/أيار 2015 بواسطة رندا قسيس، زعيمة الائتلاف العلماني الديمقراطي السوري (وهي كاتبة وحقوقية سورية علمانية).
وتنظر الكثير من مجموعات المعارضة إلى رندا باعتبارها جزءاً من معارضةٍ متسامحة مستأنسة لها دعم ضئيل، لكنَّها قابلت مؤخراً نجل دونالد ترامب في باريس، ما يوحي بأنَّ نجمها السياسي في صعود. ومع ذلك، أية محاولة لإعادة تنظيم هذه المحادثات دون الأعضاء الرئيسيين في المعارضة، بما في ذلك اللجنة العليا للمفاوضات التي اجتمعت في الرياض، ستفقد المنظِّمين مصداقيتهم على الأرجح.
ربما بدأ بوتين لتوّه ينظر إلى أنَّ دوره في التفريق أسهل كثيراً من دوره في التوفيق.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.