في بيتنا نقَّاش

صمت وواصل الحديث بينما بدأ عمله: ربنا -سبحانه وتعالى- خلقنا لتعمير الأرض وليس تخريبها، ولكن هناك من يسعون للتخريب، ورفض التعمير والمدنية، هم مستعدون لقتل كل من يقف في طريقهم؛ لأنهم أهل جريمة وإرهاب.

عربي بوست
تم النشر: 2017/02/27 الساعة 00:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/02/27 الساعة 00:34 بتوقيت غرينتش

جاء الرجل بالنقّاش إلى البيت، والنقّاش هو اللفظ المصري الذى يُطلق على فنى الديكورات؛ ليعاين الشقة، وبعد أن عاينها سارع لممارسة العمل، دون أي اتفاق لا على الأجر ولا الطلبات، طالبه رب البيت بالتوقف عن العمل لحين الاتفاق على المراد إنجازه والأجر اللازم، فما كان من النقَّاش إلا أن استل سكيناً وعاجل بها صاحب البيت في قلبه، ووسط ذهول أبناء الرجل راح النقَّاش يسكب مواد حارقة على الجثة ويشعل فيها النار، ولما خمد الحريق قام بإلقاء الجثة من النافذة، وحينما ثار الأولاد الصغار على ما حدث انتقاماً لدم أبيهم، راح النقَّاش يصيب منهم بآلته الحادة من يصيب ويحبس منهم من يحبس في إحدى الحجرات.

وبعد ذلك أغلق الباب بالضبة والمفتاح، وراح يمارس عمله في انتشاء وسعادة وكأن شيئاً لم يحدث، لكن ثمة أصوات بكاء وتأوهات وهمهمات تخرج بين الحين والآخر هنا أو هناك من بين أولئك المصابين وهؤلاء المحبوسين، فكانت تثبّط من حماسته، وتقلل من شعوره بالسعادة.

قال موجهاً كلامه إليهم: ها أنا ذا أقوم بطلاء حوائط شقتنا، وأزيل من على جدرانها ملامح الكآبة والألوان الباهتة الحزينة.

أخذ أحد الأولاد يتقلب على الأرض في محاولة لاستجماع قوته، فعاجله النقَّاش بضربة قوية من عصا كانت بجواره على رأسه فسقط مغشياً عليه وراح يوجه له كلامه: سأطليها بألوان زاهية تجعل من هذا المكان تحفة فنية رائعة.

راح يدخن سيجارته، وفتش في "جيب بنطاله" على كبسولة "الترامادول" التي التقطها وابتلعها بسرعة بينما كان يتأمل الحائط بدقة، هل أدهنها بالمعجون أولاً وكم مرة ترى يجب أن أفعل ذلك أم أقوم بطلائها بـ"البوية" بدون المعجون ثم أضيف عليها لمسات جمالية ورسوماً معينة، أم أقوم بلصق ورق حائط ملون عليها، أم كل هذا؟

واصل الصمت والتفكير ثم حزم أمره أخيراً، سأفعل كل هذا، حتى لا يقولوا إنني أبخل على نفسي.
تململ الولد مرة أخرى، وراح يسعى للنهوض في حذر بالغ، فنظر إليه النقاش نظرة ضجر، وقال له: دعنا نكمل عملنا، لا يمكنني الانتظار كثيراً على هذا الشغب، يمكنك أن تستمتع بمشاهدة الإنجازات التي تحدث في الشقة.

همّ النقاش ليشير إلى علب ألوان خضراء وحمراء وصفراء، وقال: هذه هي الألوان التي سيتم طلاء الشقة بها بدلاً من الألوان الكئيبة التي كانت من قبل، ثم أشار إلى أشكال جبسية مزركشة، وقال: هذه سوف توضع في الأسقف، وتتخللها مصابيح خافتة، وأخرى ناصعة.
ونظر إلى الأرض فقال: وهذه الأرضيات أيضاً سيتم تغييرها بأنواع فخمة من الرخام.

علت دقات الاحتجاج من خلف حجرة الحجز، اشتاط النقَّاش غضباً، نظر حوله وكأنه يبحث عن وسيلة عقابية ناجعة، فأخذ مواد حارقة معه وفتح باب الحجرة وقام بسكبه فيها، وأمسك بعود ثقاب مشتعل وهدد من فيها بأنه إن لم يصمتوا سيقوم بإلقائه على المادة الحارقة ليحترقوا، فصمتوا، فاطفأ عود الثقاب، وسبهم بأقذع الألفاظ وعاود إغلاق باب الحجرة جيداً.. وساد الصمت.

خاف الولد أن يتكلم والتزم هو الآخر بالصمت، بينما حدق النقَّاش فيه قليلاً وقال له: أعرف أنك ولد طيب، ثم ذهب إلى الثلاجة وأحضر ثمرة تفاح وقدمها له، وقال: يبدو أنك من الشخصيات المجتهدة التي لا تضيع الوقت في التربص والحقد والكراهية، يجب أن ننطلق معاً لتعمير هذا المكان وجعله جنة من جنان الله -سبحانه وتعالى- في الأرض.

صمت وواصل الحديث بينما بدأ عمله: ربنا -سبحانه وتعالى- خلقنا لتعمير الأرض وليس تخريبها، ولكن هناك من يسعون للتخريب، ورفض التعمير والمدنية، هم مستعدون لقتل كل من يقف في طريقهم؛ لأنهم أهل جريمة وإرهاب.

استمر النقاش يحكى ويحكى بينما الولد ينصت إليه، هنا دق باب الشقة بقوة، فرح الصبي كثيراً باعتباره الفرج، بينما انزعج النقاش بشدة، فمن هذا إلى يقتحم عليه خلوته ولا يعتبر لحرمات البيوت، تحسس سكينه ومادته الحارقة وفتح الباب، كان الجيران غاضبين بشدة من العثور على جثة متفحمة أسفل النافذة، واستنكروا أن تُلقَي الجثثُ المتفحمة بهذا الشكل في الشوارع، دون أن يتم إلقاؤها في صناديق القمامة اعتباراً لحرمة الموت.

وراحوا يطلبون من صاحب البيت العون في إزالة هذه القمامة، أبدى النقاش تعاطفاً كبيراً مع الواقعة، وقال إنها لوالد هذا الصبي، فقد قام إخوته بفعل هذا به، وإنه أمسكهم وحبسهم في الحجرة تنفيذاً للعدالة.

أخذ الجيران يتندرون من عقوق الأولاد، وأشادوا بعدل النقاش وسعيه للقصاص.

كان النقاش قد قام بكل مراحل الديكورات، ولكن بطريقة حديثة، فبدلاً من أن يقوم بطلاء الحوائط بالمعجون ثم الطلاء أو المعجون، ثم أوراق الزينة راح يضع الطلاء والمعجون وورق الزينة في خلطة واحدة، ما بدا معه منظر الحائط مثيراً للتقزز، دخل الجيران الشقة وراحوا يتأملون النقاشة، فانقسموا بين نفر يعتبرها مجرد "شخابيط" تعبر عن قصر أُفق، وبين رهط اعتبرها "فناً راقياً يعبر عن الحداثة"، بل إن بعضهم جزم بأنه فنان عالمي.

وأخذوا يحجزون مواعيدَ منه لتنفيذ هذه الأعمال في بيوتهم، هنا أدرك الصبي أنه وحده من يستطيع تحرير أشقائه والقصاص لوالده من "القاتل".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد