كي لا يحرق الحلاج مرتين

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/11 الساعة 00:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/11 الساعة 00:56 بتوقيت غرينتش

مؤكد أنه شعر بالهلع؛ وكأنه بدأ يشاهد كل شيء بالعرض البطيء، وكأن العالم بدأ بالانقباض على نفسه، وبالتالي على حيزه الرمزي فيه، وكأن الأشياء شرعت بالانكماش وابتلاع تفاصيلها؛ حتى لم يبق من الأشياء إلا ظلالها، كأن صدره ضاق بأضلعه أو هو الضلع تآمر عليه وخانه.

أنا المرعوب حتماً أتفهم رعبه! فالظلام مفزع جداً لمن رأى النور وأبصره: أتفهم ذلك، أتفهم جزعه كجزع من قام من كابوسه مذعوراً وبحث عن شخص يلجأ إليه، ومع أنني أعرف حادثة غار (حراء) منذ قرابة الـ١٥ عاماً؛ فإنني ما أمعنت بها إلا مؤخراً، أنا لست محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا المقال أبعد ما قد يكون عن مقال ديني؛ هذا خطاب إنساني، احتقان عصبي، ورم سرطاني في جسد المصيبة، خلاصة ثقافة الرعب، التي بخلاف سيدنا محمد لم نفطم لا عن ثديها ولا عن حليبها، ومن مكتبي الخشبي المطل من نافذة العالم -سيداتي وسادتي- لا يبدو لي الأمر وشيكاً!

ذلك المسكين الذي أخبرهم بأن الكوكب كروي ألم يشنقوه؟ لم يستطيعوا تركه وشأنه، لم يروه مجنوناً فيشفع له جنونه، ولم يروا فيه جاهلاً فيعيدونه إلى رشده.. لا.. قتلوه.. ضحوا به كما لو كان عجلاً.. كم أنها أتفه ميتة على الإطلاق! فسلام منا، نحن المتوعكون بموتك، الماشون على خطاك، الراجون النفور عن مصيرك، ولا نرى سبيلاً -يا سيدي- للعدول!

أنا لم يقتلني أحد بعد، وترقبي للاضطهاد قد يبدو سابقاً لأوانه، ولكنهم قد زرعوها في دمنا، في ثقافتنا نثروها كذلك الدقيق الذي نثروه ثم نادوا الحفاة في يوم ريح ليجمعوه، وأصبح يملأ المكان تفشى في عقلنا الباطن وفي حواسنا الكتابية على حد سواء، وكأنهم كانوا كلما استغرقنا في عميق نومنا يرقدون بجانب آذاننا، ويرددن بلا توقف أفعالهم الشنيعة، ويترجمون الخوف لنا لجميع اللغات: ساقوا مفكرينا من حناجرهم للذبح والتعذيب، ساقوهم ليروا الشر عندما يتجسد الإنسان ليكون آخر اكتشاف لهم! فكم يرهبني ذلك الرماد؛ ذلك الذي يمثل ما تبقى من الحلاج، والذي ما زال متماسكاً في دجلة.. صاعداً مع كل موجة، وهابطاً مع كل موجة، يراقب التاريخ كي لا يعيد نفسه، كي لا يحرق الحلاج مرتين! متوعداً يومئذ للمقتدر بالله أن يقدر الله عليه، ذلك الذي ضربه بلا توان بألف سوط، قطع رجليه ويديه، ضرب عنقه، أحرق بقاياه ومن ثم كتم السر في دجلة والقائمة طويلة؛ فالغزالي وابن الرازي الكندي والفارابي وغاليليو وغيرهم.. أعداد مهولة! فقد اجتبى الفكر من البشر، ما لم يجتبِه العشق قط وأخرج وحشيةً لن نراها أبداً ولا في أنكى حرب! فالكندي جرد من ملابسه وهو بالستين من عمره وجلد ستين جلدة، بوسط تهليل عام.. فكيف لا أرتجف من صوت شعري؟ وكيف لا أكتب صامتاً؟ أولم نولد جميعنا صامتين؟

(إن الله يحب الأقوياء) فماذا يبقي لي ذلك؟ أقرف اليوم من نفسي، أنا الذي كنت أنسب نفسي للشعر فقط، أنا الذي كنت أظن نفسي مختلفاً، شجاعاً يحارب قوى الظلام: أنا اليوم لا أبتعد عن الشر وحسب، بل وأغني له أيضاً! أشعر وكأنني ساومت على أخلاقي مع الشعر، وأنا منذ اليوم لا أعتقد أن هناك مهرباً من هذا المأزق مع نفسي، فالألم في الذهن، في عقلي ذلك الذي لا يتوقف عن العمل للحظة بين الولادة والموت.

قال مارتن لوثر كينغ: "إن أسوأ مكان في الجحيم، مخصص لأولئك الذين يقفون على حياد، في المعارك الأخلاقية"، هذه المقولة تحاول ردعي عن الخضوع لهذا الهاجس المروع، فهل أنشر القصيدة؟ هل أتخذ موقفاً واضحاً يجعلني هدفاً أقرب من انتباه القتلة؟ ويجعل لرأسي ثمناً لم ينله شعري قط؟ السجون مليئة بالمفكرين، حتى إنها كادت لتكون مثل مقاهي المثقفين، ولكن بلا صوت (فيروز) ذلك الذي لا يضنيه التشويش.

كتبت الليلة قصيدةً.. كالبلاء! شعرت بعدها أنني لم أكتب حرفاً واحداً قبل المخاض بها، وأنني لم أكن كاتباً حتى ليلتي هذي، ويا للعار! ففي اليوم الذي زارتني فيه موهبتي، نامت في سريري، وائتمنتني على عذريتها.. على حبها. خنتها! حتى إنني أود أن أوفر على قاتلي مهمة قتلي، وأقدم أنا الآخر على جريمة للشرف كتلك التي نفذها (هتلر)، عندما اختار أخذ حياته بيده، على أن يشاهد هزيمته.

كنت قد كتبت ديواناً من الغزل، حتى أدرك أن اللون الزاهي لا يليق بي، ولا أنا حقاً أليق عليه.. أتعبني؛ فأنا العربي ولدت على اللون الأسود. كان محاولة واهية في محاربة بندقية بالتغاضي عن وجودها، على صلب الموت بالحياة بتناسي وقوعه. أتعبني الكسل الوطني، والغياب عن نبرتي الحقيقية، أهلكني التمثيل، وأردت أكثر من كل الشيء مهاتفة صوتي، تأنيب رغبتي لخلع الألم، ذلك الذي جبلت فيه ومنه وإليه.. فكون المرء عربياً إرث ثقيل ورد لنا صغاراً. ومن بعد جفاف عاطفي مع شعري، حاول الشعر إنصاف تاريخي الطويل في إنصافه؛ كان عادلاً بعدما بدلت قضاياه بالنهد، ومطالب الجماهير بالشعر المخملي، وغضبه بالشعر الأنيق الكلاسيكي، غض نظره عن أناقتي المبالغ فيها، وأعادني غاضباً وأهداني قصيدة. أول مرة أشعر فيها أنني حي، منذ أعوام.. شعرت بالنشوة؛ وكأنني السياب حين قال: "شوق الجنين إذا اشرأب من الظلام إلى الولادة!".

قصيدة حقيقية تخاطب الشر في وجه، وتجعل مني سلاحاً ناسفاً! قصيدة أعادت لي ماء وجهي.. فمتى وصلنا للقاع، ومتى صار هذا القاع قاعنا؟ متى صار الظلام هو الصباح الوحيد الذي نعرفه؟

أخجل أنا أيضاً من دمع أمي.. حظنا ولدنا شعراء.. ذنبنا.. وقعتنا السوداء. سامحيني يا أمي لهذا القدر، الذي لم أختره واختارني تعسفاً؛ ولدنا للعظمة، ولدنا لنفكر، لنقول كلمة حق في مزاريب من الكذب، لأمة لا تطمئن إلا للكذب. أنا لا أجاملهم، أنا لا أصدقهم، أنا حتى لا أراهم! أنا أرى الأشياء كما يجب أن تكون؛ أنا أرى القتل جريمة مهما كانت الغاية وراءها، أؤمن أن الإنسان مهما كان محطماً لا يفترض اليأس من إصلاحه، أؤمن بالمجابهة لا بالمشاهدة.

أردت أن أقلص عدد الكاذبين في هذا العالم واحداً.. إنسان حقيقي.. من عصر لم تشهده الأرض بعد.. من عالم وردي.. كاتب لا يهاب مهاباً، لكنهم.. تسللوا لداخل عقلي أسمعهم يتداولون: أنا الآن أدركت أنني مملوك لنظام العالم الجديد أنا فرد، من أنا؟ أنا رقم مكون من عدة خانات، فقد استطاعوا أن يأخذوا إرادتي الحرة وأن يمنعوا الهواء عن كلماتي.

رحم الله موتانا، نحن مواطني مدينة الفكر، رحم الله من فقدنا عندما فقدنا شجاعتنا.. ثورتنا، عندما فقدنا يا حسرتاه أنفسنا..
أنا الذي بيني وبين عيون الشعر بندقية أخبروا الدرويش!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد