هم مثلنا مَن يفهمهم؟

فعلاً هذه المهنة لم تعد خاصة بذوي الاحتياجات، أو من نكب عليهم الزمن، بل أضحت اليوم مهنة يتقنها الكثير ويستطيع من خلالها تجميع الملايين، نعم ولا أبالغ إن قلت هناك مَن يمتهن هذه المهنة وهو يمتلك بنايات سكنية عملاقة، أو متاجر فاخرة، أو مقهى أو غير ذلك، وكل ذلك بفضل هذه المهنة التي انتشرت تستعطف قلوب المحبين للخير.

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/25 الساعة 03:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/25 الساعة 03:23 بتوقيت غرينتش

لا أعتقد أن بلداً يخلو منهم، ليست لهم أماكن محددة، بل قد تجدهم في الطريق العام كما قد تجدهم في أحد الأزقة الضيقة، وكما تجدهم أمام المستشفيات تجدهم كذلك أمام محلات تجارية أو غيرها، لكن أغلبهم يجلسون بحذاء المساجد ربما لأن قلوب الناس تكون أقرب إلى الله فيها من غيرها، بعضهم قد يتستر وخاصة إذا كانت امرأة قد تكون ملثمة لا يبرز منها غير عينيها، وأما الرجال فجلّهم يعمد إلى حيلة تقنع الناظرين إليه، مثل ليّ رجله أو يده وإدخالها تحت كمّه بطريقة توحي بأنه مبتور اليد أو الرجْل أو غير ذلك.

أما عن لباسهم فيختلف حسب الادعاء الذي يدّعونه وهم يمارسون مهنتهم، فقد يكون رثاً بالياً إذا كان الأمر يتطلب ذلك، وقد يكون نظيفاً نقياً في حالة ما إذا كانت المهمة تحتاج إليه من مثل أننا نجمع لإجراء عملية لامرأة أو طفل أو غير ذلك، وقد يكون لباسهم دون ذلك.

من دون شك بدأت تتكون صورة عمن أتكلم عنهم الآن، فهم لا يخلو شارع عربي من وجودهم، وكأنهم مشمولون بقدر أمتهم التي كتب عليها الذل طيلة هذه العقود، أنا لم أزر بلداً أجنبياً، وبالتالي لا أستطيع ادعاء أنهم غير موجودين أو موجودون فعلاً، لكني أطلع من حين لآخر على تقارير تشير إلى وجود بعضهم في أكبر دول أوروبا أو أميركا أو غيرها، ما أعرفه عنهم أنهم لم يكونوا موجودين من قديم، بل ظاهرتهم هذه طارئة على المجتمعات.

نعم أولئك أعني المشردين، أو المتسولين، أو الشحاذين، لا يهم الاسم، لكن ما أريدك أن تعرفه أن هؤلاء مثلنا، فيهم الصادق المحتاج، وفيهم المحتال الماكر، لكن ما دفعني للكتابة عنهم هو تنامي هذه الظاهرة بصورة مستشرية، في تسعينيات القرن الماضي كان يكثر فيهم البوسنيون أثناء النكبة التي حلَّت بهم، وبعد ذلك كثر الأفارقة السود، أما الآن وكما هو معلوم تقريباً في جميع البلدان العربية أغلبهم من إخواننا السوريين الذين أكلت الحرب بلادهم نسأل الله أن يرفع عنهم البلاء، أنا لا أدّعي أن فيهم المحتال لكن أعلم يقيناً أن هناك مَن يتقمص دورهم في هذه المهنة المدرّة للدخل، خاصة أن السوريين ليس أغلبهم يمتهنون ذلك، بل معظمهم يشتغل حراً.

فعلاً هذه المهنة لم تعد خاصة بذوي الاحتياجات، أو من نكب عليهم الزمن، بل أضحت اليوم مهنة يتقنها الكثير ويستطيع من خلالها تجميع الملايين، نعم ولا أبالغ إن قلت هناك مَن يمتهن هذه المهنة وهو يمتلك بنايات سكنية عملاقة، أو متاجر فاخرة، أو مقهى أو غير ذلك، وكل ذلك بفضل هذه المهنة التي انتشرت تستعطف قلوب المحبين للخير.

لا شك أن الكثير من الناس فقدوا ثقتهم بهؤلاء، فأصبحوا لا يثقون بهم حتى وإن كانوا صادقين، خاصة عندما تروج حكايات افتضاحهم على الإعلام الرسمي، من قِبَل السلطات الأمنية التي تكشف الكثير منهم وهم متلبسون بهذه المهنة، لكن بعد التحقيق معهم تتوصل السلطات إلى حقائق مروعة، من قِبل امتلاك أحدهم للملايين المجمعة عنده، أو غير ذلك.

كثيرة هي الصور التي تلوح في ذهني، كان آخرها مشهد ذرفت له عيناي، طفلة لم تتجاوز ربيعها السابع تقف في باب المسجد، ويداها الصغيرتان مفتوحتان، وكأنها تسأل الله أن يرفع عنها هذا الذل والمهانة التي وضعتها أمها فيهما، كان الناس يتأثرون لحالها فيجودون عليها ببعض الدريهمات، كانت بمجرد أن تمتلئ يداها تذهب تجري إلى أمها وتضع تلك الدريهمات في يد أمها، وهي تبتسم، ثم تعود إلى مكانها، وهكذا تكرر هذا لأكثر من مرة، صورة أخرى لامرأة تقف بجانبها بنتها يبدو من خلال قامتها أنها في السابعة أو الثانية عشرة من عمرها، بصوت لا يخفى ما فيه من تصنّع تدّعي أنها يتيمة، تتكلم بصوت مرتفع، وتحاول أن تمزجه بنوع من النشيج الذي يهيج القلوب فتتساقط عليها الدراهم مثل الأمطار، هذا المشهد من هاتين المرأتين رأيته في أكثر من موضع من المدينة ويتكرر بنفس السيناريو.

القصص كثيرة، أحياناً تحزنك وأحياناً تصيبك بنوع من التشنج في معدتك، لكن كان هناك مشهد استغربت له، هو مشهد لامرأة في أحد أرقى الأحياء بالمدينة، ذاك الحي معلوم أنه لا يقطنه إلا أصحاب المشاريع الضخمة والشركات الجبارة، كان الوقت ظهراً يوم الجمعة، امرأة كانت تقود سيارة يبدو أن قيمتها لا تقل عن السبعة أو الثمانية ملايين، أتت بجانب المسجد وأوقفت السيارة، ظننت أنها أتت لنيل رضى الرحمن بأداء الصلاة جماعة، لكنها فاجأتني عندما خرجت من المسجد ووجدتها بين جموع المتسولين، مادة يدَيها هي الأخرى!

هي كما يعلم الجميع ظاهرة متفشية في المجتمع، وفي اعتقادي أنها مرض أكثر منها فقراً واحتياجاً؛ إذ من خلالها يؤمل أصحابها في أنهم سيحققون ما يطمحون إليه دون كلل أو ملل، فقط بالمواظبة على الوقوف أمام المساجد، ولعل أكثر ما يدل على أن هذا مرض هو ما قرأت في كتاب "افهم القضية الفلسطينية" يحكي صاحب الكتاب أنه زار أكثر دول العالم، فلم تخطئ عينه عاصمة من عواصم الدول إلا ويوجد فيها متسولون، لكنه تفاجأ عندما زار مدينة غزة الفلسطينية، ورغم ما شهده أهلها من حروب وتنكيل بممتلكاتهم، فإنك لا تجد متسولاً واحداً وأنت تتجول وسط مدينتهم!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد