يحكى أنه في غابة مجاورة لأحد القصور، كانت هناك بقعة غامضة من الغابة، لا يصل إليها أحد ثم يرجع منها، الأمر الذي انتشر حتى أقلق المملكة، وأعلن الملك جائزته لمن يذهب ويرجع بخبرها.
تخبرنا القصة أنه قام من بين شباب المملكة فارس، وأعلن أنه سيقوم بالمهمة، وخرج للغابة مصطحباً معه كلبه فقط. وحين دخل الغابة لم يجد شيئاً سوى بحيرة صغيرة، أخذ يتجول حولها ليستكشف الأمر، وفجأة خرجت يد من البحيرة وسحبت معها الكلب!
لكن لوفائه لكلبه وصاحبه، رجع إلى المملكة، وعاد بمجموعة من العمال، وقاموا بنزح الماء من البحيرة، وكانت المفاجأة أنهم وجدوا رجلاً برّيَّاً يكسوه الشعر الذهبي داخل البحيرة [2]، اجتمعوا عليه وقيَّدوه بالسلاسل وعادوا به إلى المملكة، حيث حبسه الملك في قفص بحديقة القصر، وأخفى مِفتاح القفص في مكانٍ آمن، ومرَّت السنوات وأهل المدينة يتناقلون خبر خالد* الذي في القفص [1].
أنجب الملك طفلاً، وبينما هو يلعب في حديقة القصر إذ سقطت كرته الذهبية داخل قفص الرجل البرّي، حاول الطفل أن يقترب، لكنه هرب إلى القصر. في اليوم التالي تجشّم الطفل الجرأة، وذهب إلى خالد في قفصه، وطلب منه الكرة، لكن خالد أجاب بهدوء: (أخرجني من القفص وأنا أعيد لك الكرة). ارتعب الطفل من مجرد الفكرة، وعاد إلى القصر، لكن حنينه إلى الكرة جعله يعود مراراً إلى القفص، لكن الرجل البرّي كان جوابه ثابتاً لم يتغير. [3]
في ذلك اليوم كان الطفل أكثر عزماً على استعادة الكرة، عاد إلى خالد في قفصه وسأله أن يعيد له الكرة، ولم يتغير الجواب. أجابه الطفل: (حتى لو أردت أن أحررك، فأنا لا أعرف أين أخفى أبي المفتاح!) وكانت هذه جرأة حقيقية، ولذلك أجابه الرجل: (تحت وسادة أمك!) [4] ولم ينطق غيرها، لا الطفل ولا الرجل.
ظلَّت الفكرة تراود الطفل، وحنينه إلى الكرة يلهبه، فقرَّر أن يستغل انشغال أمه وسرق المفتاح وعاد به إلى الرجل، وبينما هو يُدخل المفتاح في القفص ليفتح الباب إذ قرصه مفصل الباب بقوة في إصبعه [5] فخرج الرجل وأعطاه الكرة، ولكن قبل أن يخرج خالد البرّي من القفص سأله الطفل: (سيعاقبني والداي إن علما أنني أخرجتك، ماذا سأفعل؟). فأجابه الرجل: (يمكنك أن تصحبني إلى الغابة، وهناك سأحميك من كل خطر، وأمنحك ما هو أغلى من كرة الذهب. أو تبقى هنا وتقول لا أعرف من سرق المفتاح). [5] فوافق الطفل على صحبة الرجل إلى الغابة، فحمله خالد على كتفيه ودخل به إلى الغابة، وعندما وصلا إلى البحيرة، فرش له الرجل سريراً من الحشائش والطحالب وأخبره: (هنا لن تعود إلى والديك مجدداً، لكنني سأعوضك بما هو أغلى من الذهب). [1]
في الصباح اصطحبه الرجل في الغابة حتى وصلا إلى ينبوع نهر من ذهب، تتراقص فيه أسماك وثعابين ذهبية. قال الرجل: (سأتركك هنا، لكن عليك حماية النهر، وألا يتلوث ماؤه بأي شيء، وسأعود لأرى حفاظك عليه). ظلَّ الطفل طيلة اليوم يحمي النهر، لكن ألم أصبعه اشتدَّ، وسهواً قام بغمس أصبعه في النهر، لكن المفاجأة أن أصبعه تحوّل إلى ذهب. عاد خالد في المساء، وحاول الطفل أن يُخفي أصبعه خلف ظهره، لكن الرجل قال: (أعرف ما حدث، وسأسامحك هذه المرة، لكن لا تكررها)، [لقد حصل على منحته في موضع جرحه]، وفي اليوم التالي بينما قام الطفل بحراسة الينبوع، تعب من الحراسة، فتمدد بجوار الينبوع وفرك رأسه، فسقطت منه شعرة في الينبوع فتحولت مباشرة إلى ذهب، عاد خالد في المساء، وقال له: (أعرف ما حدث، وسأسامحك للمرة الأخيرة).
في اليوم الثالث، وفي منتصف النهار أراد أن ينظر لوجهه في الماء، وحين دقق النظر في صورته واقترب لامس شعره ماء النهر واستحال كله إلى ذهب. ارتعب الطفل وأخفى شعره بمنديل، ولما عاد خالد في المساء قال له: (انزع هذا المنديل!) فانسدل شعره الذهبي من تحته، ولم يكن لسانه الآن من يتوسل، بل عيناه! لكن وبهدوء قال له الرجل البرّي: (الآن لا يمكنك البقاء هنا، سأعيدك إلى العالم الخارجي، لكن في كل مرة تشعر فيها بالتعثر والضعف، تعال إلى حافة الغابة وناد "يا خالد البرِّي" وسأخرج إليك وأساعدك).
من خلال الأرقام سأقوم بربط الإسقاط مع هذه القصة التي صاغها "روبرت بلي" في كتابه Iron John، وهي قصة رمزية تشير إلى مأساة الرجولة في عصر الحداثة وما بعدها، حيث أصبحت الرجولة تعني الوحشية والقسوة، في محاولات انتهت بحبس الرجولة كقيمة في قفص من حديد [1]، ما نتج عنه جيل من "الأولاد" اللطفاء، الذين لا يمثلون تهديداً لشيء أو لأحد، ويشير چون الدردچ لنفس المأساة بوصف: (تقصيف مخالب الأسد)، فبدلاً من ترشيد استعمالها، تم سلبها منه بالكلية، وحين يسألني أحدهم أين أجد الرجل البرّي الخاص بي، فالجواب هو: داخلك، تحت ماء البحيرة يحتاج فقط جهدك للبحث عنه [2].
ما سيقوم به الرجل البرّي مع الطفل هو طقس الإطلاق، حيث يصطحب رجل حقيقي الطفل في رحلة لاستكشاف نفسه، والحياة بصحبة الرجال، ومن منظور الرجال. ويعقِّب روبرت: "لقد فقدنا الرجال منذ الستينات، حين اختفى ذكر طقوس الإطلاق حتى من قصص النوم". وقد انتشرت طقوس الإطلاق في بيئات وثقافات عديدة، فكان العرب يحتضنون أبناءهم عند قبيلة بدوية لعامين في المهد، وفي اليونان كان المراهق عند البلوغ يخرج للبرية لاصطياد وحش، ويعود بفروته ليتم تنصيبه كواحد من الرجال، وهذه الطقوس لا تزال بين الكثير من قبائل وسط إفريقيا، حيث يتم اصطحاب الطفل المراهق لثلاثة أيام بعيداً عن بقية الجماعة، ويتم تأهيله ليكون واحداً من الرجال. ويكون أحد الرجال الكبار بمثابة المرشد Mentor للرجل الناشئ، يعلمه معنى الرجولة، ويكتسب الآخر منه صفاتها، أما في العصر الحديث فقد فَقَد الطفل كل اتصاله مع الرجال المرشدين حتى والده، ذلك المسكين المحبوس خلف مكتبه في وظيفة حداثية، يرجع منها مجهداً عن القيام بوظيفة الأبوّة إن وجد ابنه مستيقظاً! وفي الفيلم الرائع "عالم مثالي A perfect world" قام بعملية الإطلاق للطفل اليتيم آخر من يمكن توقعه للقيام بها، وهو خاطفه!
وتكون النتيجة أن يستكين الطفل، ويتعلّم التواصل فقط مع جانبه الأنثوي -وهو جانب حيوي ومطلوب لكن في درجة ثانوية بالنسبة للرجل- وقد يعوّض شعوره الداخلي بفراغ الرجولة بالمبالغة في الاهتمام بالجسد والصورة، ويعوّض فراغ القوة من خلال العنف، فالعنف الرجولي -من الإساءات والتحرش والعنف تجاه الزوجات- هو مظهر من مظاهر التعويض عن نقص الرجولة بالعنف. [3]
في قصتنا هنا يمثل خالد ذلك الرجل البرّي الذي تم حبسه في القفص، والذي يواجهه كل طفل ولو مرة، بحثاً عن كرته الضائعة، [4] ففي قلب كل رجل -وامرأة في الحقيقة- هناك شيء مفقود، شيء سقط في القفص ولا مجال لاستعادته دون مخاطرة. ويكون خياره إما أن يترك ذلك الرجل الجامح ويعود إلى القصر، أو يقبل أن يخرجه مرة من قفصه، وينكر أي شيء عن ذلك، في إشارة إلى النزوات الجامحة التي يخرج إليها بعض الشباب ثم يتنصّلون منها، يشعرون بلذة استعادة كرة الذهب لساعة أو ليلة، يبقون على ذكراها بقية العمر [6].
لكن الطفل هنا قرَّر أن يخرج مع الرجل في طقس إطلاق رمزي داخل الغابة، ولكن يتم جرحه خلال هذه المحاولة [5]، وفي الحقيقة ليس هناك رجل -ولا امرأة- لا يحمل جرحه الخاص، فنحن لا يمكننا حماية أبنائنا من حمل ذلك الجرح، وأقصى ما يمكننا فعله لهم هو تزويدهم بالمتانة النفسية، التي تمكنهم من التعامل معه حين يحصلون عليه، قد يحصل على هذا الجرح من والديه أو غيرهما في صورة قسوة أو إهمال، أو حماية زائدة، أو غير ذلك.
يخرج الطفل إلى الغابة (الطبيعة، والحرية) وهناك يستكشف نهر الحياة الحقيقية، التي ستكسو طفولته بالذهب (الرجولة). يعقد له الرجل ثلاثة اختبارات ويفشل فيها جميعها، ولكن بدلاً من أن يحمله الرجل بالخزي لفشله، يعلمه أن إخفاقاته ليست مبرراً للخزي، بل سيبقى معه وداخله للأبد يعلمه ويرشده.
لقد خرج الطفل من عباءة والده وتحرَّر من قبضة والدته، ثم اتصل بالطبيعة وطلاقتها وحريتها، وأخيراً استكشف نفسه وتعرَّف إلى عالمه الحقيقي، الذي يمتد داخله منذ الأجداد العظام الذين قابلوا خالد البرّي وتعلموا على يديه، والذين بنوا المجد القديم. لقد تقبَّل جروحه وحملها معه، ومن خلال جرحه بدأ الذهب ينتشر في جسده [7]، فقد كانت منحته في محنته، وكانت إخفاقاته ناتجه عن محدوديته وطبيعته، من الألم والانشغال والفضول، لكنها كانت بوابات المنح التي حصل عليها. [8] وهذه هي الدروس التي أراد الرجل البرّي أن يعلمها له؛ لقد تم إطلاقه.
* الاسم في القصة الأصلية هو جون، وهو ذو دلالة لقصة يحيى النبي والمعروف في التراث المسيحي بـ"صوت صارخ في البريّة".
للمزيد:
القصّة مصوّرة:
Robert Bly; Iron John, a book about men.
John Eldredge; Wild at heart.
چون الدردچ، رجولة قلب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.