قصة مدينتين

فهي تسرد حياة أفراد يمثلون شخصيات تكاد تراها في كل مكان في الدنيا، هم أناس شاءت المقادير أن يعيشوا ثورة بكل ما تعنيه الكلمة من آلام وضحايا وانتقام، الثورات في أغلبها لا تملك وقتاً للتمحيص، فالأمر لا يخرج عن أبيض وأسود وحينئذ نتوقع الثمن الباهظ لغياب العدالة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/25 الساعة 08:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/25 الساعة 08:26 بتوقيت غرينتش

"كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان، كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة، كان عهد الإيمان، وكان عهد الجحود، كان زمن النور، وكان زمن الظلمة، كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط". هكذا افتتح تشارلز ديكنز رائعته (قصة مدينتين).

الرواية تدور حول إرهاصات الثورة الفرنسية وما تبعها من أحداث جسام في تثبيت الثورة وتغيير النظام الملكي الأرستقراطي.

فهي تسرد حياة أفراد يمثلون شخصيات تكاد تراها في كل مكان في الدنيا، هم أناس شاءت المقادير أن يعيشوا ثورة بكل ما تعنيه الكلمة من آلام وضحايا وانتقام، الثورات في أغلبها لا تملك وقتاً للتمحيص، فالأمر لا يخرج عن أبيض وأسود وحينئذ نتوقع الثمن الباهظ لغياب العدالة.

قصة مدينتين في رمزيتها أظهرت معادن الناس في تعامل بعضهم لبعض خلال الأزمات، فتجد مثلاً غير المبالي، وتجد الخائن لجاره، ويصدمك الظالم بجبروته والمظلوم باستكانته أو إن شئت بعجزه، وترى كذلك البريء المتهم.

هذه الشخصيات الوهمية في واقع الأمر حقيقية، فإنك تعرفهم حولك دون أن تقرأ سطراً واحداً في الرواية.

ولكن الذين قرأوها لا ينسون شخصيات محددة ترسم الواقع المزري الذي كانت تعيشه فرنسا. أحدهم مثلاً الماركيز سان ايفرموند الذي يمثل نموذجاً من واقعنا الذي نعيشه الآن.

الماركيز في الرواية داس بعربته المسرعة طفلاً صغيراً ابن الفلاح جاسبارد. وقتها ألقى الماركيز عملة ذهبية إلى والد الطفل كتعويض ثم استأنفت عربته المسير.

بالله عليكم، كم من طفل داسته عربات ماركيزات الشرق، حتى العملة الذهبية لم تلق إلى ذويهم على قارعة الطريق.

ولكن دعني أذكركم باسمين آخرين مهمين هما مسيو أرنست ومدام تريز ديفارج، وقد كانا يقومان سراً بقيادة فرقة من الثوريين.

الأمر كما تخيله تشارلز ديكنز للثورة الفرنسية لم يكن يجيء اعتباطاً بل كان معداً بدقة على مستوى التخطيط الحاذق، فلا مفاجآت ولا تنازلات.

حتى الصيحة المشهورة التي أطلقها الرعاع "إلى الباستيل" لإطلاق سراح المسجونين السياسيين لم تأتِ تلقائية بل كانت العامة من الناس في تمام جاهزيتها لاقتحام السجن المنيع بغض النظر عن الخسائر.

تشارلز ديكنز، ربما كان هذا هو أسلوب الكتابة وقتها، تعمد أن يتطرق لتفاصيل مملة وكئيبة ومكررة في مشاهد مختلفة في الرواية، يبدو أنه أراد أن يشارك القارئ حالة البؤس التي أصابت الطبقة البسيطة من الشعب بسبب طغيان الطبقة الحاكمة بعمق غير مسبوق.

وقتها يستطيع القارئ أن يبتلع كثيراً من مشاهد العنف التي صاحبت قطع رؤوس النبلاء وأن يجد الأعذار للمظلومين في كمية الغضب التي نالت أبرياء من طبقة النبلاء، بل وبعضاً ممن أخذوا بالشبهات.

في واقعنا العربي المزري وحالة اللامبالاة، لن تجد في مخيلتك إلا الأسوأ قادماً، بل إن تشارلز ديكنز ما كان ليحبك روايته لتضاهي تفاصيل حياة المواطن العربي في القرن الواحد والعشرين.

بيد أن الذي نتعلمه من الرواية أن الثورات تأتي دائماً بعد استفراغ أحشاء الحكمة واستنفاد الجهد لرأب صدع المجتمعات بطريقة ودية وعلمية.

أما الثورات فمجيئها نذير بتغيير، ولكن بأدوات لا تلتزم بالنمط التقليدي وتخرج إلى حالة خروج الحمم من البركان، وقتها يغيب العقل وتلتهب المشاعر وتعصب العدالة عينيها حتى يعود الرشد مجدداً.

ما أكثر ضحايا الظلم وضحايا الثورات، كم من بشر دفعوا تكلفة انتفاضة لم يؤخذ رأيهم فيها ومنهم أطفال ونساء وشيوخ بل وشباب!

ولكن يبقى ثمن الحرية غالياً وتبقى الثورات مقامرة تحتمل المكسب كما تحتمل الخسارة، وكما أن للظلم جبروتاً طاغياً فللحق قوة ملهمة، ودفع الناس بعضهم بعضاً إصلاح للكون وهذه سُنة الله "ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسُنة الله تحويلاً".

اللهم إنا نسألك الرشد في كل مدخل، والحكمة في كل مسلك، والسلامة في كل مخرج.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد