لا أعرف إن كُنت سأُصيب إن قُلت: ما أشبه اليوم بالبارحة، أم أن الأكثر صواباً للمعنى المراد ما أشبه حكام اليوم بالبارحة، وربما أصدق ما قيل في هذا الأمر ما قاله أبو العلاء المعري :
سجايا، كلُها غدرٌ وخُبثُ ** توارثها أُناسٌ عن أُناسِ
لقد ورد في كتب التاريخ قصة عن أعرابيّ زاحم الناس في موسم الحج في زمن هارون الرشيد على بئر زمزم، ثم بال فيه، فانقض الناس عليه لطماً وضرباً حتى انتبه العسس فأسرعوا وخلصوه من بين أيدي الناس، وعندما علموا القصة أخذوه للأمير وأخبروه بفعلة الأعرابي، فصاح به الأمير: لمَ فعلت ذلك أخزاك الله؟ فقال الأعرابيّ والدماء تسيل منه من كل جانب: أردت أن يذكرني الناس ويبقى لي أثرٌ بينهم، أي أن يدخل التاريخ، ومن هنا نجد أن الداخلين للتاريخ إما أن يدخلوه بفعلهم أو ببولهم.
لقد سطّر التاريخ لنا أسماء كانت لها أفعال مُخزية كانت سبباً في تشرذم الأمة وضياع عزها ومقدساتها وأراضيها بسبب وهنهم وضعفهم ومؤامراتهم، فلقد ذكر لنا التاريخ الملك الكامل الأيوبي الذي قام بتسليم بيت المقدس للملك فردريك على سبيل المجاملة بعد معاهدة يافا التي كانت مدتها عشر سنوات، ضارباً بعرض الحائط مئات الآلاف من المسلمين في كل أنحاء البلاد الإسلامية آنذاك، ولعل أبلغ ما قيل في هذه الواقعة ما قاله الشيخ شمس الدين أبو المظفر، إمام جامع دمشق في ذاك الوقت: (انقطعت عن بيت المقدس وفود الزائرين! يا وحشة للمجاورين! كم كانت لهم في تلك الأماكن ركعة! كم جرت لهم في تلك المساكن من دمعة! بالله لو صارت عيونهم عيوناً لما وفت، ولو انقطعت قلوبهم أسفاً لما اشتفت، أحسن الله عزاء المسلمين، يا محلة ملوك المسلمين).
كما يذكر لنا التاريخ مؤامرات الخلفاء الفاطميين وتحالفاتهم مع الصليبيين ضد السلاجقة، فقد ذكر ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ: (إن أصحاب مصر الفاطميين لما رأوا قوة الدولة السلجوقية وتمكنها وسيطرتها على بلاد الشام وغزة، ولم يبقَ بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم، فخافوا وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم للخروج إلى الشام ليملكوه). وهذا ما نتج عنه خروج الصليبيين عن اتفاقهم مع الفاطميين بعد هزيمتهم للسلاجقة وقاموا بفعل نشوة الانتصارات بالسيطرة على بيت المقدس، وأجروا فيها الدماء والقتل والدمار وحوّلوا المسجد الأقصى لإسطبل لخيولهم، وذكر لنا التاريخ عن قاضي دمشق أبي سعيد الهروي الذي حاول بعد سقوط القدس أن يذهب إلى الخليفة العباسي ليستنهض همّته في تحرير القدس، ولكنه لم يأخذ منه إلا الكلام فقرر أن يستثير نخوة البغداديين فطلب الخطبة في أحد جوامعها، وكان ذلك في أحد أيام رمضان صعد القاضي الهروي إلى المنبر وبيده صرة جال بصره في المصلين، وبدل أن يبدأ خطبته فتح صرته، وأخرج منها كسرة من الخبز تناولها على مرأى من المصلين، هاج الناس وماجوا ثم سرعان ما صرخ فيهم قائلاً: ويحكم أتهيجون وتموجون لإفطار رجل في رمضان فيما لا تحركون ساكناً حيال سقوط قبلتكم الأولى.
وغير بعيد عنا أخبار الأندلس في فترة ملوك الطوائف الذين تهافتوا بإبرام اتفاقيات الخنوع والمذلة ودفع الجزية لملك قشتالة في سبيل عدائهم لبعضهم البعض، مما تسبب في نهاية الأمر لسقوط الأندلس، ومثال هذه التحالفات، الحلف الذي عقده المعتمد بن عباد، ملك إشبيلية مع ملك قشتالة، والذي تعهد فيها الأخير بأن يُعاون الأخير ابن عباد بالجند ضد أعدائه من الأمراء المسلمين، وفي مقابل ذلك يتعهد ابن عباد بدفع مبلغ كبير كجزية لملك قشتالة، وأن يتركه حراً طليقاً في أعماله ضد طليطلة، وألا يعترض سبيله في الاستيلاء عليها، حتى أدرك المعتمد بن عباد في نهاية الأمر طمع ملك قشتالة في مملكته، فقال كلمته الشهيرة: (رعي الجمال خيرٌ من رعي الخنازير) وطلب مساندة دولة الموحدين رغم معرفته بأنهم ربما سيخلعونه من ملكه، وهذا ما حصل فعلاً.
ما أشبه أندلس ملوك الطوائف بحاضرنا عرب يحاصرون بعضهم البعض، ويدفعون لأميركا وأوروبا مقابل سكوتها عن تصرفاتهم ويشترون أسلحة منهم وطائرات ويوقّعون تحالفات سرية ومعلنة، ويشنون حروباً على بعضهم وضد بعضهم، وكما كانت نتيجة أفعال ملوك الطوائف ضياع الأندلس وتحول مساجدها لكنائس كان نتاج شَبَه حاضرنا بزمانهم ضياع القدس بمعاهدات وتحالفات جعلت القدس عاصمة لإسرائيل من قبل ملك قشتالة الجديد دونالد ترامب.
لقد تناقلت وسائل الإعلام في الأيام الماضية خبرين الأول: شراء ولي العهد السعودي عبر وسيط هو الأمير بدر بن عبدالله لوحة المسيح المخلص بأكبر ثمن يُدفع في لوحة فنية في التاريخ وهو نصف مليار دولار، كم هو محزن أن نرى أن لوحة المخلص بألوانها البراقة قد جذبت وليّ العهد السعودي، رغم مخالفتها لديننا الحنيف، بينما لم يلفت انتباهه شحوب مدينة القدس وأهلها، لم يلفت انتباهه شحوب القدس، وهي ترى منع المصلين والتضييق عليهم في دخولهم للمسجد الأقصى، لم يرَ شحوبها وساحاتها تفتح أمام الجماعات اليهودية المتشددة، لم يرَ شحوب وجهها وهي تعاني من التوسع الاستيطاني وطرد أهلها وجعلهم أقلية في أرضهم ومدينتهم، لم يرَ شحوب وجهها ومآذنها تمنع من نداء المصلين المُقَبلين بجباههم أرضها، لم يرَ شحوب وجهها وهي تُعلن من ملك قشتالة الجديد عاصمة لإسرائيل، متناسياً هذا الأحمق أن مَن يحتفظ بمفتاح وقوشان منذ 69 عاماً لن يتنازل عن القدس، ولو تنازل عنها البعض في السر والعلن فكل مَن تنازلوا عنها ذهبوا وبقيت هي حرة عربية.
أما الخبر الثاني: فهو عودة أئمة المسجد النبوي للإمامة من المحراب النبوي بعد انقطاع دام ربع قرن، وكان أول وقوف لإمام فيه يوم الجمعة الماضي، وهو المحراب الذي بناه عمر بن عبد العزيز مكان محراب النبي ومكان وقوفه في إمامة المسلمين في الصلاة، والمتابع لخطبة المسجد النبوي فقد خلت من ذكر القدس، وتحدثت عن الأربعة فصول ثم وقف مكان وقوف الرسول، ألم يخجل والرسول على مقربة منه؟! ألم يخجل وقدماه وقفتا في مكان وقوف الرسول؟! ألم يخجل وجبهته وافقت سجود الرسول؟! وهنا لا يحضرني إلا أن أقول:
للروضة الخضراء ساقتني ساقي
ليطيب لي يا رسول الله بك التلاقي
أنا ممن كنت للقائهم تواقِ
وبكيت عليهم من حر الأشتياقِ
كفكف دموعك فلا شيء من إرثك باقي
ما بين عرب بطول البنيان في سباقِ
وعرب همهم في النكاح والطلاقِ
أضعنا الشام ومصر واليمن والعراقِ
والحائط صار المبكى بدل البراقِ
وكل يومٍ نقيمُ مأتماً ونبكي على الفراقِ
ففينا من يُقتلُ دون ذَنبٍ بلا اشفاقِ
فَعُذراً إن لم تنزل منّي عبرة يا سيد الأخلاقِ
فالدمعُ قد جفّ في المآقي
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.