منظومة القيم المفتقدة

والكل قد يفعل أي شيء إذا ما اقتضت الظروف، والألم والهلع من القتل ليس لأنه خطأ أو حرام، أو إجرام، ولكن لأنه قد يفضي إلى العقوبة، إلا أنه سهل في هذه القصة، كل شيء مباح في هذه القصة، مرة أخرى لأنه لا منظومة قيمية تحكم عالمها، فهو من أعلى من فيه قوة إلى أقل من فيه قدرة، أفراد يسعون وراء أهواء تشغلهم، ولا يمنعهم منها مانع إلا قصور قدراتهم أحياناً، ورغم شكاوى تأتي من حين لحين، فإن أحداً لا يتوقف لينظر إلى أين هو ذاهب، وفقط يستمر في الاتجاه الذي هو فيه.

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/01 الساعة 03:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/01 الساعة 03:56 بتوقيت غرينتش

رأيت أن أطالع الوجه الآخر لتحولات المجتمع المصري في السنوات الأخيرة، من خلال قراءة الروايات المنشورة حديثاً، إذ إن متابعة الأخبار السياسية تضلل أكثر مما تساعد على الفهم، وفي الحقيقة هناك حركة نشر تستحق المتابعة، بعدما كنت أظن أن الثقافة في مصر في غيبوبة منذ دخلت حظيرة وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني، فقررت قراءة بعض القصص من الأكثر شهرة المنشورة خلال الخمس سنوات السابقة، منها التي تحولت إلى أفلام سنيمائية، كالفيل الأزرق وهيبتا، وغيرها، وبدأت بقصة تراب الماس لمؤلف الفيل الأزرق، لأني وجدتها أولاً.

في تراب الماس، كما في الفيل الأزرق، يعود مؤلفهما للتاريخ القريب في تراب الماس أو البعيد في الفيل الأزرق، ليرى الواقع الحالي بشكل من الأشكال، أما هيبتا فهي نوع ومحتوى واتجاه مختلف تماماً، ولمؤلف آخر، ومع ذلك فقد اشتركت مع الفيل الأزرق وتراب الماس في أمر مهم، وهو وجود مجتمع في كل حالة منها، يفتقد إلى منظومة قيمية حاكمة لسلوكيات وأفعال أفراده، وبدت هذه ملحوظة مهمة، في سبيل فهم التيه السياسي الذي تعيشه مصر حالياً.

تتحدث تراب الماس عن مصر التي فسدت، وسرى فيها السوس منذ استولى عبدالناصر على الحكم، وأزاح محمد نجيب، الذي كان آخر فرصة لنا، كما قال المؤلف، وكانت العينة من المصريين التي قدمها من الماضي من المسلمين والمسيحيين واليهود، أصدقاء تجمعهم مودة عميقة، مع دخان الحشيش، وضحكات وتعجبات الخوض في سيرة الآخرين، وتخمين نوايا ضباط يوليو/تموز 52، مجتمع رغم ما فيه كانت له ملامح، وفيه معايير فاعلة للصحيح والسقيم، ثم فجأة انتقلت الأحدث إلى الزمن الحاضر، بفساده وتفسخه، وبقي الحشيش كما هو وظهرت مخدرات وآفات أخرى.

ومنظومة القيم تمثل قيوداً على حركات الجميع من أجل صالح الجميع، وتقوم أساساً لترتيب أوضاع وعلاقات وتفاعلات أفراد المجتمع، وفي القصة لم يكن هناك أي رابط يربط عناصر المجتمع ببعضهم، فكلهم أفراد تطحنهم حركات الأقوى منهم، ولا يبدو أن أحداً يهتدي بأية فكرة ما ذات أساس، إلا الأب الباقي من الماضي، مدرس التاريخ، الذي آمن بأنه لا بد أن يحارب الحرب منفرداً، برغم شلل ساقيه، فاستبقى من ماضيه القديم سلاحاً فتاكاً ليقتل به الخونة والفاسدين والمفسدين، وقام فعلاً بقتل بعضهم، إلى أن قتله أحدهم، وكان الأمر كأنها حلبة صراع أو ساحة يجري الكل فيها لهثاً وراء هوى ما، وغابت تماماً فكرة بنية مجتمع ذي تقاليد ومبادئ، فهم أفراد يجمعهم المكان، لكنهم لا نرى فيهم خصائص الانتماء لذات المكان، وذلك لأن المكان بلا منظومة قيمية تحدد خصائصه.

وتأتي الأفكار الكبيرة أحياناً، عن معنى الوطن، وجدوى الحب، وقيمة الجنس في الأدب، وحقوق الإنسان والثورة ضد السلطة، والعدل والحرية، وحدود القوة، ومحاربة الفساد – تأتي عرضاً في كلام أفراد متفرقين، لكن هؤلاء الأفراد ذاتهم يعيشون عيشات لا تتشابه إلا في أنها عيشات بلا ضابط، اللهم إلا ضابط واحد، هو التخفي من الغير والازدواجية، فالصحفية المناضلة لها جلسات خاصة، وتطرق الباب على طه، وقبل الدخول تسأل هل هو وحده، وطه المكافح منافق محترف بالمهنة، وياسر يعيش عالما وهمياً من خيالات الجنس بعيداً عن زوجته، والأب يخوض حرباً سرية، والصيدلي يصنع المكيفات للبلطجي، والضابط يستخدم المخدرات ويمالئ الفاسدين، ويقتل لحماية نفسه، وزوجته لا مشكلة لديها إلا مظهرها الاجتماعي حتى وهو على فراش الموت، ورجل السلطة والمال فاسد، والآخر الشاذ جنسياً يفوز في الانتخابات، ويعيش واقعاً آخر في شذوذه، وسيدة المجتمع الراقي ذات النشاط المؤسسي إنما هي قوادة مع كل الكبار، من كل النوعيات في مجتمع يعيش في فصام.

والكل قد يفعل أي شيء إذا ما اقتضت الظروف، والألم والهلع من القتل ليس لأنه خطأ أو حرام، أو إجرام، ولكن لأنه قد يفضي إلى العقوبة، إلا أنه سهل في هذه القصة، كل شيء مباح في هذه القصة، مرة أخرى لأنه لا منظومة قيمية تحكم عالمها، فهو من أعلى من فيه قوة إلى أقل من فيه قدرة، أفراد يسعون وراء أهواء تشغلهم، ولا يمنعهم منها مانع إلا قصور قدراتهم أحياناً، ورغم شكاوى تأتي من حين لحين، فإن أحداً لا يتوقف لينظر إلى أين هو ذاهب، وفقط يستمر في الاتجاه الذي هو فيه.

ورغم المقومات الكبيرة في تركيبة الأحداث، والتي كان من الممكن أن تكون دراسة حالة لتشخيص مرض المجتمع المصري، فإن القصة لم تشخص ولم تقدم أفكاراً، بل دفعت الوقائع نحو انتصار طه وسارة، مع ياسر أيضاً، على البلطجة والسلطة المجرمة، وبدئهم مرحلة جديدة من الحياة، وصلوا إليها بعد قتل اثنين أو أكثر، قتل يبدو كان مبرراً ومسموحاً به لديهم، لم يشعروا معه بالذنب، وقد قُتل في القصة تاجر المخدرات ورجل الأعمال الفاسد في كل عصور حكم الجيش وعضو البرلمان، وابنه البرلماني كذلك الشاذ جنسياً، وقُتل مقدم الشرطة الفاسد القاتل المحرض على القتل، وقُتل اليهودي الذي تواصل مع الإسرائيليين أثناء العدوان الثلاثي، وقُتل البلطجي، وقُتل الأب الذي يحارب الحرب السرية ضد المفسدين، وماتت مبادئ النضال والثورية التي بنت بها سارة معركتها مع السلطات، ولم ندر إلام تمضي الحياة بهذا المجتمع، حتى بعد نهاية القصة السعيدة.

كان هذا من حيث المضمون، أم من حيث الشكل، وعلاقته بافتقاد المنظومة القيمية، ففي مقال تالٍ.

ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد