استطعت لبرهة أن أقنع الطبيب المشرف على حالتي المرضية بالسماح لي بالخروج من المستشفى لمدة لا تزيد عن ربع ساعة، في محاولة مني للفرار من الروتين المرضي الذي ألازمه منذ سنتين، كل محاولاتي السابقة باءت بالفشل، وعندما سمح لي الطبيب بهذه الفرصة شعرت أني امتلكت الدنيا.
وأخيراً سأخرج من بين جدران الغرف التي تمتلئ رائحتها بالأدوية المقيتة، خرجت وما زالت إبرة التخدير الموضعي في يدي ممنوع عليّ إزالتها، وأدرك أن عودتي القريبة للمستشفى ستتطلب مني وضعها، ففضلت إبقاءها حتى لا أتكبد ألم وضعها مجدداً، وهي تحاول تمزيق شراييني كما كنت أشعر كل مرة يضعونها لي..
خرجت، ومررت في الأسواق باهية اللون، الناس عددها كبير، بحثت في ملامح وجوهههم عن تفاصيل الحياة خارج المستشفى، عن ضحكة وبسمة وحب وحياة ونبض لا يؤلم، وأنفاس لا يشعر أصحابها بدنو الموت لصعوبة التقاطها، في الأسواق تهت، ظننت البلاد تشبه نفسها قبل 6 أعوام تقريباً، قبل أن يعتقلني المستشفى وتكبلني إبرة التخدير، وتخنقني رائحة الأدوية.. تُهت.
عندما مررت بألوان السوق الباهية، شعرت نفسي بأنني ما زلتُ في غرفة المستشفى فهي ألوانها زاهية أيضاً، زاهية باللون الأحمر الذي أخبرني عن معناه أبي، وقال لي: "إياكَ والأحمر فهو يعني الحب" كلمة الحب التي يعيبها الناس دوماً، ولا يعيبون نظرتهم لها، ولكني كنتُ أراه زاهياً جميلاً، خبأت معناه في قلبي وأخفيته عن الكل وأحببته، حتى رأيت جدران المستشفى بلونه، فكرهته، وأدركت أن أبي كان محقاً في كرهه، ولكني كرهته بنظرة أخرى، أبي كان يكرهه؛ لأنه يدلل على الحب و"الحب في زمن أبي عيب"، ولكني كرهته؛ لأنه في زمن بات معناه رمزية "لون الحرب" و"لون الدم"، جدران المستشفى "الباهية" كانت مليئة بلون الدم الذي سال بفعل الحرب والإجرام.
ثم تنبهت لأعداد الناس الذين مررت بهم في السوق، كانوا كثيرين ولكن عددهم لا يفوق أولئك الماكثين في المستشفى الذي أرقد فيه، أو ربما العدد متشابه، في المستشفى أعداد الناس كبيرة، أو أعداد أشباه الناس كثيرة، فمنهم مَن سُلبت يداه وآخر رجلاه، وآخر نصفه، وآخر كله وأضحى جثّة لا تجد مَن يواريها الثرى ولا مَن يودعها؛ لأنها فقدت أحبتها بالموت قبل أن تفقد روحها، فأعداد أشباه الناس والجثث متكدسة تفوق كل الأرقام..
عندما خرجت من المستشفى اكتشفت أن الرائحة المقيتة لا تعود لها تحديداً، إنما تعود لآلة الحرب والقتل التي تفتك بالخارج، وتلك الإبرة التي توجعني، هي في الحقيقة إبرة الخذلان واليأس من أن خارج المستشفى أجمل من داخله، لو أني أملك فطنة جيدة لأدركت أن المستشفى بشع نتيجة بشاعة خارجه وإلا لما كان هذا حاله، ولما كنتُ فيه بعد أن أصبحتُ ضحية، وأني دخلت المستشفى جرّاء إصابتي بالقصف المقيت الذي يأخذ منا أرواحنا وحياتنا بلا سبب أو مبرر، وأنه يشبهني كل شعبي..
المستشفى ذلك متمثل في مشافي بلاد العرب، والخارج هي بلاد العرب التي أدماها حكّامها، وسحقتها أنظمتها، وأماتتها "جيوشها" التي تقوى على أبناء بلدها ولا تقوى على أعدائها الحقيقيين، خارج المشافي هي بلاد العرب التي قتل حكامها شعوبها لأجل مناصب ومكاسب.
باتت كل أمنيتي أن ألتقي بأبي الذي كره أحمر الحب، وأماته أحمر الحرب، لأقول له أنا أيضاً كرهت الأحمر، ولكن ليت الأحمر في زمنك كان في زمني، لأحببت الحياة لا الموت، فالعيب أخف ضرراً من القتل كُرهاً..
آباءنا أرجوكم علّمونا ما ليس في زمنكم، أو اتركونا نتعلم من الواقع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.