كثيراً ما نسمع عن السلام كلفظة يتداولها الكثيرون ويوظفونها في سياقات مختلفة وبمعان ومقاصد متباينة، بل إن السلام صار شعاراً رومانسياً يتغزل به الساسة ورجال العمل الدبلوماسي والمجتمعي! إنهم يتغنون بالسلام على أنه الخيار، وأنها القيمة التي لا يمكن لنا من دونها أن نتعايش، وهذا جميل، ولكن قد يتساءل البعض: لماذا نرى كل هذا العنف والفساد والظلم في عالم اليوم؟ هل فشل السلام كمدخل وقيمة في علاج مشكلات وتحديات العالم؟ أم أننا نحن الذين فشلنا ولا نزال في فهم قيمة السلام معنى وممارسة؟
يبدو لي أننا لم نصل بعد إلى الممارسة الصحيحة والعميقة للسلام كقيمة قد تكون فعلاً هي الأساس في بناء أمن الفرد النفسي وقوته، بل والأرضية الصلبة لجذور التنمية المستدامة في كوكبنا، ويبدو أن الكثيرين اليوم اتخذوا من السلام قناعاً يُخفي قبحهم ونزواتهم وجشعهم ورغبتهم في السيطرة على كل شيء!
إنه سلامٌ مزيف يتغذى على ضعف الناس وحاجاتهم الإنسانية، سلام لا يعدو كونه مضغ كلام وأداة من أجل تبرير مصالح خبيثة، سلام يُعرب عن نوايا شريرة لصالح شهوة السلطة، ويُحابي وينحاز إلى منطق القوة على حساب منطق القيم Might is Right! وعلى هذا النحو قد تشكّل بارادايم السلام لدى الغالبية من الناس على أنه انهزام وخذلان واستسلام وتسوية لصالح الأقوى!
وبلا شك فإن هذا السلام بهذا التصور لا يبشّر بخير، ويجني المزيد من المشكلات، وسيبقى يكرس الوضع الحالي ما لم نعِ حقيقته، ومن الواضح أنه قد ترك آثاره على المجتمعات العربية خاصة، فالعنف أصبح الثقافة البديلة لدى غالبية العرب، عنف فكري وديني ولفظي ومشاعري ونفسي وجسدي، وعنف في التربية وفي التعليم وفي الاجراءات والتعليمات والمعاملات، ثقافة عنفية متنامية ومستمرة بأشكال مختلفة، فضلاً عن العنف الإعلامي الذي يحرّض ولا يتردد في نقل ونشر الأخبار السيئة والإشاعات المُغرضة والأحداث المأساوية والصور المروّعة، وبثها بين الناس!
وبعيداً عن المزيد من تشخيص الحالة المريرة، أقول إن السلام الذي نراهن عليه وندعو له أولاً هو سلام مع الذات Inner Peace، وهو أن يتمتع الفرد بحالة من الانسجام والتناغم العقلي والروحي والجسدي مع تبنيه لفلسفة ومعرفة عميقه بنفسه تمكنه من مواجهة تحديات الحياة. هذا "السلام الداخلي" مبدئياً إذا تمثّله الفرد في نفسه فسينتقل تأثيره الطاقي تدريجياً إلى بيئته ليشكّل له حالة من السلام المحيطي Peace Out وأول مؤشراته أن يصبح الفرد لا يتأثر بالأحداث والأشخاص السلبيين من حوله، الأمر بحاجة فقط إلى أن تبدأ من نفسك أولاً، وأن تتمثّل قيم السلام في ذاتك، ثم دع الأمور تسير من تلقائها!
السلام الداخلي
كما أشرت سابقاً إلى تعريف السلام الداخلي على أنه "حالة من الانسجام والتناغم العقلي والروحي والجسدي مع تبني الفرد لفلسفة ومعرفة عميقه بنفسه تمكنه من مواجهة تحديات الحياة"، ومن هنا وحتى يتحقق هذا الانسجام على الفرد أن يكتشف رسالته في الجوانب العقلية والروحية والجسدية، على أن يطور مجموعة من الأهداف في كل جانب والعمل على تحقيقها، بالإضافة إلى الجانب المعرفي عن النفس الذي يتطلب تطوير وتنمية الذات باستمرار عبر التعليم والتدريب، مع ضرورة تبني الفرد لمجموعة من القيم ذات الأولوية "سلم القيم" التي بدورها ستحدد له شكل استجابته وتفاعله مع الحياة.
إنني أؤمن بأن السلام الذاتي أولاً هو الأساس والمدخل لبناء وعي جمعي ومجتمع سلمي، وهذه هي الإجابة عن التساؤلات السابقة، فحتى ينجح السلام في العالم علينا أن نصنعه أولاً في أنفسنا، أن نعيشه وعياً ونسلكه قيمة ومن ثم سيتأثر به الآخرون، وهذا الطرح ليس مثالياً وإنما يتقاطع مع قول الله عز في علاه: "إنّ اللّه لا يُغيّر ما بِقومٍ حتّى يغيّروا مَا بأنفُسهم" فكيف نسعى للسلام وهو ليس سمتاً فيناً؟! وكيف نطالب بإقامة العدل إن لم نُقمه في موطن أنفسنا؟! وهل يستوي أن نرفع شعارات الشفافية والمهنية، والفساد ينخرُنا؟!
إن السلام الداخلي هو البداية الصحيحة لتجليات السلام في المجتمع، سلام قائم على المحبة وتمني الخير للآخرين، سلام يؤسّس لمحبة غير مشروطة، وسعادة مُرضية، ومعاملة تملؤها الرحمة واللين، سلام يمتزج فيه العدل بالتسامح، سلام من قبيل "من سَلِم المُسلمون من لِسانه" و"أمْسِكْ عليكَ هذا" و"فليقلْ خيراً أو ليَصمِت"، سلام يدعو للتفاؤل والبهجة والإيجابية والنجاح وتحفيز الآخرين، سلام يدعو ويدعم كل تغيير إيجابي، ويدعو للعدالة والمساواة والتكافل الأهلي والمجتمعي، سلام يدعو للتسامح والصفح والعفو والمغفرة، ويدعو لاحترام الإنسان والرفق بالحيوان والحفاظ على البيئة، سلام يعيد للإنسان إنسانيته وفطرته التي فطره الله عليها، وأننا جزأ من كل وأبناء لعائلة واحدة "كلكم لآدم وآدم من تراب".
هذه هي قيم السلام التي تجعلك تُقارب إنسانيتك وتقترب أكثر من حقيقة وجودك وفطرتك، سلام يؤكد على المشترك ويستفيد من حكمة التنوع والاختلاف، هذا السلام الذي يجعلك منفتحاً ومتقبلاً لكل شيء وتؤمن بالوفرة وبوجود مصدر للوجود ولنظام الكون وقوانينه، سلام يجعلك متفاعلاً مع القدر كمتغير ديناميكي، وبأن كل ما في السماوات والأرض مسخر لخدمتك، سلام يجعلك تعزف موسيقى رسالتك في الحياة وتضيف لها وتستفيد منها وتعمرها وتشارك في صناعتها، سلام يؤمن بالحقوق وبالواجبات وبالحريات كحريات تسالمت عليها كل المجتمعات، سلام يجعل من إنسانيتك لا تعرف الفرق بين أبيض وأسود وأحمر، لا تعرف الفرق بين مسلم ومسيحي ويهودي وبوذي وهندوسي وسيخي وكنفشيوسي وطاوي.. الخ، سلام تذوب فيه كل الفروقات والتصنيفات، سلام يؤكد أن أصل الدين واحد ومن رب واحد ومصدر حكيم وأن هذا الرب هو الله وأنه الخالق، وأن من أسمائه السلام الذي منه وإليه يكون!
إن تراث الاسلام حافل بالسلام وبمواقفه السلمية، بل إن جميع الرسل بمن فيهم العظماء بلا استثناء وعلى مر العصور حملوا رسالة السلام وجاءوا مجددين بدعوات السلام والمحبة لأقوامهم من أمثال موسى وعيسى وبوذا ولاوتزو وكريشنا وزردشت ومحمد صلى الله عليه وسلم، كلهم جاءوا بأصل واحد غير أن الطريقة والتجليات مختلفة، أصلٌ ينضوي على المحبة والسلام، ولنا في رسول الله أسوة حسنة، فبعد توقيعه لصلح الحديبية الذي جاء بعد سبعة عشر عاماً من دعوته، لم يكن تعداد المسلمين آنذاك أكثر من ألف وخمسمائة، بينما أخذ فترته في صلح الحديبية في نشر رسالة السلام فدخل مكة فاتحاً دون قتال بعد الصلح بأقل من سنتين وهو يقود كتائب سلمية تقدر بعشرة آلاف نسمة! أي أن تعداد المسلمين تضاعف من 6 إلى 7 مرات في سنة عن التعداد الذي جمعه في 17 سنة، فضلاً عن خياره السلمي في العفو "اذهبوا فأنتم الطلقاء"!
إن التاريخ يعلمنا أن الحروب وسياسات العنف خسارة لكل الأطراف، ولا تجلب الخير أبداً، وأنها يجب أن تكون ضرورة للدفاع عن النفس والوطن والعرض والحقوق إذا كانت خياراً، وأن خيار الإنسان لا بد أن يكون في السلام أولاً، وهذا يتطلب أن يعرف الإنسان كيف يسالم ذاته ثم الآخرين القريبين منهم والبعيدين! إن هذا المعنى اليوم يتطلب منا جهداً أكبر، خاصة أن سمعة المسلمين ليست جيدة في هذا الميدان، خاصة أننا كشعوب نعرّض بقية الشعوب اليوم لمعاناة في عقر دارهم وفي ديارنا، وهو بالتأكيد مخالف لفطرتنا ولكرمنا وشهامتنا وقيمنا وديننا وعاداتنا وتقاليدنا الأصيلة.
إن الإنسان في السابق كان يحتمي بالمسلمين وبديارهم ويعيش في كنفهم دون أي تمييز أو أي عداوة، ولكن الناس اليوم تخشى الذهاب لبلاد المسلمين وتصدر من خارجياتها تعميمات وتحذيرات من السفر لبعض البلدان المسلمة!
فلنكن أهلاً للسلام ولنتحلَّ بأخلاق السلام والمحبة قيمةً ومعناً ووعياً في أنفسنا، وأن نعمل معاً من أجل بناء سلم مجتمعي وعالمي، ولتكن رسالتنا سامية إنسانية وكونية، وليكن الأولوية لخيارنا في السلام، فهو خيار الشجعان وهو حتماً الأقوى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.