يصيبني في بعض الأوقات نوع من الإعياء أو لنقُل هو نوع من الإحساس بالفراغ العميق، فراغ لا أدري كنهه، أهو فراغ روحي، أم نفسي أم عقلي أم عاطفي… لا أستطيع الجزم… تجدني أفتح حاسوبي العزيز خلال تلك الأوقات، وأفتح برنامج الكلمات، أعدل نوع الخط وحجمه، وأثبت المؤشر في طرف السطر…. ثم أبدأ باستجماع أفكاري للكتابة في موضوع ما… قبل أن أمضي لا بد لي أن أطلعكم على أحد أسراري الكتابية، فمن إحدى عاداتي التي ربما أعتبرها إيجابية، أنني أضع لنفسي بنكاً من العناوين التي تأتيني في لحظات الإلهام، عناوين للمقالات، وعناوين للقصص، وحتى عناوين للكتب التي سأكتبها لاحقاً..
ولكن ما يحدث أحياناً أنني عندما أبدأ بالكتابة، أجد الكلمات قد رحلت عن خاطري وغدا مكمن الإبداع في داخلي كإقليم السافانا في موسم الجفاف وانعدام المطر، جافاً متيبساً ترحل عنه كل مظاهر الحياة… أحاول استدعاءها وابتكار الأفكار فتتمنع عليَّ وترفض الانصياع لأوامري… أشعر حينها بالنضوب… أشعر بالقلق، ويصيبني خوف خانق… تحاصرني الأسئلة السوداوية… أتكون هذه نهاية الكاتبة داخلي؟ أتكون قد جفت منابع الأفكار لدي بعد أن نضب الإبداع داخلي؟ أيكون صخب الكلمات قد غادرني إلى غير رجعة وحل محله صمت مميت؟ ثم ما يلبث النبع أن يفيض وأعود لسابق عهدي، برفقة كلماتي وحاسوبي…
وتراني في كل مرة أتعرض لنفس الإعياء تعود إليَّ الأسئلة ذاتها والمخاوف ذاتها.
على الرغم من أنني اكتشفت مارد الكتابة الذي كان يختبئ داخل قمقمه في نفسي في وقت متأخر من حياتي… بعد أن بلغت التاسعة والثلاثين… أما قبل ذلك، فقد كانت جميع محاولاتي الكتابية السابقة مجرد خواطر مبعثرة أُسرِّ بها لأوراقي بعد أن تضيق الدنيا في ناظري… وبشكل تلقائي أجدني أغلق الباب على نفسي وأطلق العنان لعيني لتبكي كما تشاء ولقلمي ليفرغ حبره على أوراقي مستخرجاً ما تضج به نفسي من أفكار وأحزان لا تكاد تفارقني… وعندما أراجع بعض أوراقي التي كتبتها في مراحل عمري المبكرة والتي ما زلت أحتفظ ببعضها رغم استحالة لونها إلى الأصفر الباهت، أجد كلماتها تبحث دائماً عن شيء واحد… هو العثور على الذات… فقد كانت تزخر تلك الأوراق بالأسئلة الحيرى… والأفكار التائهة التي تبحث عن جزيرة آمنة لتحط رحالها عليها.
ربما شعوري الدائم بالوحشة حتى في أكثر الأماكن اكتظاظاً بالناس وأكثرها صخباً هو السبب وراء بحثي الدائب عن شيء موجود داخلي، وجوده يحيرني أحياناً، ويحدث في داخلي ثورة أحياناً أخرى، ولكنني أشعر به سيبعث الطمأنينة في نفسي عند خروجه للعلن… لم أكن أعلم عن نبع الكلمات التي أمتلكها داخل نفسي شيئاً… ولم أن أعلم السبب الذي يجعلني دئماً أشعر بعدم الرضا… لم يكن الحصول على المال أو الشهادات العلمية، ولم يكن الارتباط والزواج، ولم يكن إنجاب الأطفال. لأنني حصلت على كل ذلك، وما زال ذات الشيء يحزنني ويقض مضجعي ويتخمني بالكآبة…
كنت أبكي كثيراً، ولا أعرف لماذا… لنفس الشعور بالحيرة والضياع… وما كان يزيد من قلقي ومخاوفي دائماً هو شعوري بأننا كائنات لها بداية (وأنا بدايتي مضت في سبيلها)… ونهاية ربما تكون قد اقتربت… فأرتبك حينذاك وأشعر بغربتي أكثر… أخاف أن تأتي النهاية قبل أن أدرك تماماً كيف أصل إلى ما أريد وكيف أشيد بكتاباتي قصراً أو معبداً يستظل تحت قبابه الباحثون عن الحقيقة والتغيير نحو الأفضل.
تملكتني الحيرة سنوات طويلة، إلى أن اهتديت إلى نبع الكلمات الموجود داخلي، فأحسست بظمأ السنين الماضية يعب من مائها عبَّاً وكأنه يريد إدراك نفسه بالارتواء قبل فوات الأوان.
فانطلقت في سبيلي وأنا أتذكر قول جلال الدين الرومي: "الليل ينجب النهار، نستطيع بدء الحياة من جديد، في أي وقت ومن أي مكان"… وكان البدء… لا يهم متى… المهم أنني بدأت…
ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.