يشهد الاتفاق السياسي الليبي من تاريخ توقيعه في الصخيرات المغربية، معرقلات تقف أمام تنفيذ بنوده، الذي كان من المفترض به أن ينهي حالة الانقسام السياسي في البلاد وإيقاف الصراع المسلح بين أطراف النزاع والتي يمكن أن نحصرها في معسكرين..
معسكر ما يعرف بعملية الكرامة الذي يوجد في القسم الشرقي من البلاد، والذي يقوده الجنرال حفتر، والذي تدعمه بعض الأطراف القبلية في شرق البلاد، وتعاون واضح معلن مع منظومة النظام السابق التي تجد في حفتر مطية لتجد موطئ قدم في ليبيا بعد ثورة فبراير/شباط، أضف إلى هذا البرلمان الذي اتَّخذ من طبرق في أقصى شرقي البلاد مقراً له وشرعن حفتر وقواته وبذخ عليه بالترقيات العسكرية، وأصبح الجناح السياسي لعملية الكرامة التي ما زالت في ثلاث سنوات تحاول السيطرة على بنغازي.
أما الداعم الأكثر نفعاً له هما دولتا مصر والإمارات، ومن بعدهما فرنسا التي أعلن وجود عناصر لها في قاعدة بنينا جنوب بنغازي لأغراض استخباراتية، قدم هذا الاعتراف بعد مقتل ثلاثة ضباط فرنسين بسبب إسقاط طائرة عمودية عسكرية شرق بنغازي هذه الدول الداعمة لحفتر ومشروعه، لم تكتفِ بالمعلن فقط، فهناك مصادر وتسريبات تؤكد أن قاعدة بنينا أصبحت تشابه قاعدة منهاد في أطراف دبي، بسبب وجود الطائرات الإماراتية فيها، والتي تشارك في أعمال قتالية في بنغازي.
أما الطرف الآخر فهو تجمع سرايا الثوار، وما عُرف سابقاً بعملية فجر ليبيا التي انطلقت رداً على عملية الكرامة في طرابلس وطردت قوات تابعة لحفتر منها، هذه القوات تعتبر الأكثر عدداً وخبرة في القتال فأغلبهم شارك في حرب التحرير، وإن كانت تعاني من الانقسام وعدم التوحد ونقص الدعم الدولي الذي يحظى به حفتر.
أكبر معاقل هذه القوات مدينة مصراته في وسط البلاد، والتي انطلقت منها العمليات لطرد تنظيم الدولة في سرت وقدمت حتى اللحظة ما يقارب خمسمائة شهيد وثلاثة آلاف من الجرحى تحت اسم عملية البنيان المرصوص، والتي تكاد تصل لنهايتها بسبب انحصار التنظيم في مساحة ضيقة.
هذه القوات التي تقاتل في سرت، أعلن سابقاً أنها تقاتل تحت غطاء رئاسي الوفاق، والذي طلب من الولايات المتحدة الأميركية تقديم المساعدة بقصف مواقع لتنظيم في سرت وهذا ما حصل، ولكن حكومة الوفاق حتى اللحظة لم توضح مشروعها القادم لهذه القوات وكيفية دمجها وإعادة تشكيلها تحت مظلة الجيش المزمع بناؤه وفق الاتفاق السياسي.
هذه القوات لديها توجس ومخاوف من التعامل الرئاسي مع حفتر والسكوت وغض الطرف عن الكثير من تصرفاته، وآخرها الصفقة القبلية التي تمت في منطقة الهلال النفطي بطرد حرس المنشآت النفطية واستبداله بقوات حفتر، رغم أن الرد الدولي كان سريعاً ضاغطاً على حفتر لتسليم إدارة الموانئ النفطية لحكومة الوفاق.
هذا المشهد العسكري والسياسي المعقد جعل حكومة الوفاق تراوح مكانها وتتخذ موقف الحياد من كل الأطراف فلم تُرضِ هذا أو تلجم طموح ذاك، وجعل منها المتصدر لتحمل المسؤولية أمام المواطن الذي يعاني من أزمات يومية بين الغلاء والتضخم إلى نقص سبل الحياة اليومية وتردي خدمات الدولة.
حكومة الوفاق في مفترق طرق، في انتظار أن يقبّل حفتر يدها الممدودة للدخول تحت مظلتها، وهذا الأخير يؤكد دائماً أن الاتفاق السياسي وهذه الحكومة لا تعنيه، بل ذهب بعيداً ليقول في أحد تصريحاته إن ليبيا بحاجة لحكم رجل عسكري وكأنه يقول هأنا ذا المنقذ المخلص وبدوني لا استقرار أو سلام، فطبيعة حفتر من تصريحاته أو تصرفاته تبين أنه أبداً لن يكون جزءاً من الحكومة فهو بعقيلة العسكر التي تحكم قرارته.
أما كل شيء أولاً وهذه المهادنة المستمرة من حكومة الوفاق، قد يُفقدها داعميها من الطرف الآخر، الذي يطالب بالالتزام ببنود الاتفاق السياسي، ويبقى السؤال: إذا لم تحدد الحكومة خطة عملها القادمة مع المؤسسة العسكرية وبعد انتهاء تحرير سرت من قبل قوات الثوار ما هو القادم؟ أين ستتوجه هذه القوات وكيف ستتعامل مع رئاسي الوفاق ومهادنته مع حفتر؟
أما المجتمع الدولي أو بالأحرى الدول التي تضع أيديها على الملف الليبي التي تعلن مراراً وتكراراً دعمها للاتفاق السياسي ولحكومة الوفاق وتختلف فيما بينها في طرق تحديد سبل إنهاء الانقسام السياسي وتوحيد المؤسسة العسكرية والأمنية، وحول هذا الأمر عُقد اجتماع في باريس أحيط به التكتم ولم يخرج ببيان أو حتى تصريح، حضره ممثلون من الصف الأول من دول مصر والإمارات وتركيا وقطر والدولة المستضيفة، وغابت عنه دول أخرى كانت يجب أن تكون حاضرة مثل الجزائر وتونس والغائب الأبرز الممثل الليبي، حيث لم يحضر أي ممثل للحكومة أو الأطراف الليبية لهذا الاجتماع، ولكن التسريبات تقول إنهم لم يصلوا لنقطة اتفاق حول الملف الليبي وكيفية إيجاد أرضية مشتركة حول التعامل مع الأحداث المتسارعة.
ما يمكن أن يفهمه المتتبع للملف الليبي وتعقيداته، أن استمرار هذا الصراع ومحاولة فرض حكم القوة من حفتر أو ما يقابله من رد فعل قادم لا محال من الثوار ومراوحة رئاسي الوفاق بين هذا وذاك، سيقود ليبيا إلى مزيد من الانقسام وانهيار اقتصاد الدولة المهترئ أساساً..
ليبيا الآن في أشد الحاجة لقرارات جريئة ترسم الطريق وتضع النقط على الحروف والابتعاد عن المراوغة والمماطلة التي تتخذها بعض الأطراف ظناً منها أنها ستحسم عسكرياً على الأرض وهذا من المحال في ظل التوازن العسكري والدولي.
هذا يؤكد أنه لا بديل عن الالتزام بتنفيذ الاتفاق السياسي ودعم الحكومة بعيوبها ومن فيها وإبعاد كل من يعرقل الاتفاق السياسي، وبناء مؤسسة عسكرية بعيدة عن الشخوص وتنازع التيارات الفكرية والحزبية، وإعادة المسار الديمقراطي إلى الطريق الصحيح، كما نص عليه الاتفاق، إما هذا أو حرب قبلية جهوية لا يُعلم نهايتها، ولن تكون ليبيا وحدها المتضرر، بل كل دول الجوار وحتى الضفة الأخرى من البحر المتوسط.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.