في الأزمان الغابرة، مدت مصر يد العون إلى العالم في السنوات العجاف زمن النبي يوسف عليه السلام، فكانت بحق خزائن للخيرات والغلال في الأرض بلا منازع، ولم تمض الأيام حتى أغاثت مصر المسلمين في عام الرمادة في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم تنفك مصر أبدا عن رعاية الحرمين الشريفين والمقدسات الإسلامية، فكانت الكسوة المصرية تخرج كل عام في محمل رهيب لتزين أستار الكعبة وجدرانها، وكانت التكية المصرية بمثابة الزاد والزوّاد لقاصدي بيت الله الحرام لتكون خير شاهد على عطاء مصر لأمتها العربية والإسلامية ولشعوب العالم كافة.
والآن، تمر الدولة بأسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها الحديث، فهل أتى على مصر حينٌ من الدهر نراها تمد يديها وتُطأطئ رأسها؟ وهل يصح لمصر، بتاريخها العتيق، أن يُبنى اقتصادها على التبرعات والمنح والمساعدات الخارجية؟ بالتأكيد، ما كان لمصر أن تشهد مثل هذه الأزمة الاقتصادية الكارثية لو كانت ظروفها السياسية طبيعية.
فعلى مدار خمس سنوات، شهد الاقتصاد المصري تحولات خطيرة ليسجل أسوأ المعدلات في تاريخه الحديث. على رأس تلك المشكلات، يأتي تدهور قيمة العملة المحلية الجنيه وارتفاع حجم الديون إلى مستويات غير مسبوقة.
دائما ما كانت السياسة هي المحرك الأساسي للعجلة الاقتصادية، لذلك فإن السبب الرئيس وراء تدهور الحالة الاقتصادية يتمثل في الاضطرابات السياسية التي تعيشها مصر منذ ثورة 25 يناير/كانون الثاني لعام 2011 وفي أعقاب 3 يوليو/تموز 2013. فقد نتج عن تلك الأوضاع السياسية توابع اقتصادية خطيرة، كان من أهمها تقلص الاحتياطي النقدي الأجنبي وارتفاع حجم الديون، وارتفاع سعر الدولار. لكن، ما الأسباب الحقيقية وراء تلك الكوارث الاقتصادية؟
فنيا، يخضع تحديد سعر الدولار شأنه شأن أي سلعة أخرى لتقلبات سوق العرض والطلب، إلى جانب ما ينتاب السوق من شائعات بشأن حالة الاستقرار السياسي؛ فإذا انخفض الطلب على الدولار قلت قيمته، وإذا ارتفع الطلب عليه زادت قيمته. إلى جانب ذلك، هناك منابع أساسية للنقد الأجنبي والدولار على وجه الخصوص، هذه المنابع تتمثل في عائدات السياحة ودخل قناة السويس وحجم الصادرات وتحويلات المصريين العاملين بالخارج، إلى جانب الاستثمارات الأجنبية في مصر.
لسوء الحظ، فقد جفت تلك المنابع خلال السنوات الخمس الماضية. فوفقا لتقارير حكومية، انخفض عدد السياح من 14.7 مليون سائح عام 2010 إلى 6.06 مليون سائح عام 2015، بنسبة تراجع في العائدات تبلغ 66%. أما عن قناة السويس، فقد سجلت إيرادات القناة انخفاضا طفيفا في عام 2015 لأول مرة منذ سنوات طويلة رغم افتتاح الدولة تفريعة جديدة للقناة، لكن الانخفاض جاء نتيجة بطء حركة التجارة العالمية. وفيما يتعلق بحجم الصادرات والواردات، فقد بلغت نسبة العجز في ميزان المدفوعات التجاري قرابة 3.4 مليار دولار أميركي نتيجة زيادة الواردات وقلة حجم الصادرات.
أما عن تحويلات المصريين العاملين في الخارج، فقد انخفضت نسبة التحويلات بشكل ملحوظ رغم زيادة عدد المصريين العاملين بالخارج. وتظل المخاطر الاستثمارية العالية عائقا أمام زيادة حجم الاستمارات الأجنبية نتيجة انعدام الاستقرار السياسي في منطقة مليئة بالفعل بالصراعات العسكرية والدينية. أضف إلى ذلك، الإسراف والتبذير الحكومي في صرف النقد الأجنبي على مشروعات غير مدروسة مثل تفريعة قناة السويس، والدعاية والترويج الدبلوماسي والإعلامي للنظام المصري.
حجم الديون المصرية الخارجية والداخلية هو الأعلى في تاريخ الدولة، فقد بلع إجمالي حجم الديون نحو 3 تريليونات جنيه، منها 53.4 مليار دولار أميركي ديونا خارجية، ونحو 2.5 تريليون جنيه ديونا داخلية، بنسبة 97% من الناتج المحلي الإجمالي. ما زاد الطين بلة، هو اعتزام الحكومة المصرية اقتراض 21 مليار دولار من صندوق النقد الدولي في الفترة المقبلة. الأكثر من ذلك، أن فوائد الديون السنوية بلغت 292 مليار دولار في موازنة عام 2016 – 2017. كما بلغت نسبة العجز الحقيقي في الموازنة نحو 600 مليار دولار، هذا إلى جانب تقلص الاحتياطيات النقدية الأجنبية إلى 17 مليار دولار، من بينها نحو 15 مليار دولار ودائع خليجية سيتم ردها في المستقبل.
جاءت الحلول الحكومية لحل الأزمة الاقتصادية فريدة من نوعها على المستوى العالمي، فبدأت بفكرة التصبيح على مصر يوميا، ووصولا إلى عقد مؤتمرات اقتصادية وهمية زُعم أنها ستضخ المليارات في الاقتصاد المصري. وبين هذا وذلك، تجد حفنة من المشاريع القومية الاقتصادية في اسمها والسياسية في مضمونها بلا دراسات للجدوى أو حتى مخططات منطقية في التنفيذ.
الفقراء هم من سيدفعون فاتورة هذه الكوارث الاقتصادية والإدارة غير الرشيدة للاقتصاد المصري، فارتفاع الأسعار وثبات الدخول نتيجة تدهور قيمة العملة سيتحمل وطأتهما الفقراء، إلى جانب ذلك ستتكلف الأجيال القادمة عبء تسديد الديون المتراكمة التي قد تضطر الدولة في وقت من الأوقات إلى إعلان إفلاسها نتيجة عجزها عن السداد.
فهل آن الأوان لمن بيدهم صنع القرار أن يدركوا أن الأزمة الاقتصادية هي في أصلها سياسية وتحتاج إلى إحداث انفراجة في الوضع السياسي بالبلاد قبل البحث عن أي حلول اقتصادية، وأنه لا بد من توحد أطياف الشعب كافة في صنع القرارات المصيرية لكي تقف معا في مواجهة الأزمات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.